نجاح إبراهيمالحوار الذي أجريته مع الناقد العراقي الكبير الدكتور (حاتم الصكر) صدر في العدد 610 من مجلة الموقف الأدبي، الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في سورية..(حوار مع الناقد الكبير، الدكتور حاتم الصكر.) من يحترفُ الكتابة سيعرفُ على الفور الناقد الكبير الدكتور حاتم الصكر، الذي يشغل الساحة الأدبية العربية بمقالاته وكتبه النقدية الكثيرة، حتى صارت كتبه العديدة مرجعاً لكلِّ مهتم في المشهد النقدي الأدبي.هو الذي مدَّ أصابعه في موقد الشعر ، وأشعل آراءه فيه ، فكان له الصوت المدوي في قراءة القصيدة الحداثية ، وكان لنا هذا الحوار معه.

س1- من أين أتيتَ إلى النقد؟ وهل أغلقتَ البابَ خلفك؟

أتيتُ إلى الكتابة النقدية بمركبِ الشعر السكران كما يصفُ رامبو. لكنني صحوتُ من خيالاته على شواطئه متلمساً فضاءً آخر، جذبني هواؤه كما تفعل السيرينيات في الرحلة الأوديسية حين يجذبن البحارة والركاب بغنائهن إلى جزيرتهن . لم أبتعد عن مياه الشعر، وظلَّ يغمر روحي بلغته ورؤاه، بل صار حقل كتابتي الأول. ولربما كان لانبهاري بالشعر نفسه : بنيته وخيالاته وتشكلاته المختلفة، ما دفعني لتأمل ذلك والبحث عن سرِّ ما فيه، وكان النداء النقدي أكثر الإجابات ملاءمة لما أريد.ولم أكن غريباً عن أغلب كتاب جيلي، حيث أوصلتهم كتابة الشعرمبكراً إلى قراءته والإنشغال به عنه.

س2- ما الذي دفعكَ إلى النقد؟

إحساس داخلي أو فضول معرفي للوقوف على جوهر الشعر من خلال كتابته ودوافعها وتشكلات الملفوظ الشعري.هي متعة الكلام على الكلام التي رآها التوحيدي أكثر صعوبة من الكلام ذاته؛لأنها تريد التخلص من أسْره وتبني كيانها على مفارقة خطابه ..أسئلة محيرة تجعلني أفكرُ في هذا الإستثنائي الذي يوقع الشاعر في كمائنه، فيرى الأشياء التي يراها الآخرون بعينين من كلمات وأخيلة وصور ولغة وإيقاع.ولا شك أنَّ ثمة محرّكات ومشغّلات معرفية مصاحبة لذلك؛ قراءة الكتب النقدية ومتابعة الزوايا والأبواب المتعلة بمراجعة الشعر، وفي مقدمتها زاوية حرصت على قراءتها شهرياً ،هي ( قرأت العدد الماضي) الذي فتحته بتقليد حضاري جميل مجلة (الآداب) اللبنانية منذ صدورها .وزاد الفضول النقدي حماسةً ما درسنا في مواد النقد الأدبي وتحليل النصوص الشعرية في الجامعة .

س3- كتابك " الثمرة المحرمة" تلقي فيه الضوءَ على بعضِ التجارب الحداثية ، وعلى قصيدة النثر وما يحيط بها من إشكالات وطروحات ، ماهي هذه الإشكالات؟

في ( الثمرة المحرمة ) موقفٌ يفصح عنه العنوان .أحسبُ أنَّ شجرة الشعر تحمل لغرابتها ثماراً متنوعة؛ شجرة سحرية فيها الكثير من اسم الشعر ودلالاته.تثمر بلا جفاف ، وتتنوع على نفسها بنفسها في تربة ثرية العناصر.من بين ثمارها كان قدر قصيدة النثر أن تكون الثمرة المحرمة.هذه الإحالة إلى أمثولة هبوط آدم وطرده من الفردوس لتذوقه الثمرة، تساعد في بيان الموقف من قصيدة النثر، فهي ملعونة لا يجب الإقتراب منها فضلاً عن تذوقها.وهذه أولى إشكالات قصيدة النثر.مشكلة التلقي والإستقبال على مستوى القراءة.لم يغيّر القراء بمختلف مستوياتهم موقعهم من الشعر وقراءة القصيدة.استمرت الإشتراطات ذاتها نظراً لصلابة الجسم الشعري العربي وتراكُم نصوصه عبر تاريخه. وأية زحزحة شكلية أو جذرية تلقى صدّاً عنيفاً يصل أحياناً كثيرة إلى التخوين وسوق الإتهامات غير المقنعة لأنَّ أغلبها لا يبحث في ماهية الجديد كالعادة.وقد أخّر ذلك الرفض الصارم وتيرة كتابة قصيدة النثر ، وهو مالم تشهده عند ظهورها في الآداب الأخرى. الجسم الشعري في العربية متين ،ومتمترس خلف ما ترك من منجز لا يراد لنا مفارقة نموذجه الذي لا نختلف حول قيمته وجمالياته، لكنه منتج في ظرف وشروط وثقافة تغيرت في أوجه كثيرة، وهو مالم يرض به الرافضون. وساهموا في إقصائها من الدرس الجامعي والنقدي والنشر أحياناً.ولا يمكن في عجالة كهذه أن نتجاهل، أو نغفل ما كانت تعانيه قصيدة النثر ذاتها، من ضعف كثير من نماذجها المنشورة وتوهُّم أنها في موقع ضدي مع الشعر كما يوحي اسمها غير الدقيق.، وأنَّ سهولة كتابتها ممكنة لأنها نثر! ويضاف لذلك ضعف التنظير لها والدفاع عنها ، وهو مالم يتعدَّ الردود المتحمسة، والترجمات المبتسرة لكلاسيكيات النقد الذي تناولها.وأطروحة سوزان برنار خاصة ، حيث تمَّ تداول ملخصها كما فهمها رواد كتابة قصيدة النثر، وتمسكوا بتوصلاتها كدستور جمالي.

س4- ما زالت قصيدة النثر متهمة وغير شرعية في نظر الكثيرين، ما رأيك بهذا وأنت الناقد صاحب خبرة وعلى تماس بحركة الشعر العربي الحديث وتياراته الفنية الجديدة؟

لا أجد الموقف من قصيدة النثر هو ذاته عند بدء روادها من الجيل الأول بكتابتها.انتفحت الآن كثير من الأبواب المغلقة بوجه نشرها وقراءتها ودراستها وبحثها أكاديمياً. وتضاعف عدد كتابها وكاتباتها بشكل كبير قياساً لعمرها. ربما ظلت بعض التحفظات هنا وهناك وبدوافع مختلفة ، ومنها ما ينشر من نصوص ضعيفة تحت مسمى قصيدة النثر،وغياب الفحص المنهجي والفني لآلياتها وتنوعاتها الممكنة أسلوبياً.

س5- مم تعاني قصيدة النثر؟ ما يثقلها؟ وماهو مستقبلها؟

يبدو السؤال بصيغته هذه علاجياً، بمعنى أنه يفترض مرضاً تعاني منه قصيدة النثر ،وعلاجاً بمواجهته، والأمر عندي أن ثمة أزمة في الكتابة عامة.أسئلة كثيرة تلح على الكتابة العربية: ما يضخّ زمننا من حداثات متنوعة في الحياة والفنّ، التبدلات الأسلوبية في الفنون المجاورة للشعر، تغيّر وسائط الكتابة الشعرية وظهور التواصل الرقمي والشبكي...وكذلك ما تقترحه المنهجيات الحديثة في قراءة الشعر.تلك بعض أسباب تشكل أزمات الكتابة ،وهي بالمناسبة صحية ، لأنها تدفع للبحث عن إجابات وطرق جديدة.لكن بعض خيوط أزمة قصيدة النثر يمكن معاينتها لنلتقط أبرزها، وهي عندي مشكلة التلقي حيث لم يغير القراء مواقع وكيفيات تلقيهم لها.وظلوا يبحثون فيها عما عهدوه في قراءاتهم وتربيتهم الشعرية من نماذج تقليدية، وكذلك من فهم مغلوط لشعريتها، فيتصور بعض الكتّاب أوهاماً كما سماها أدونيس ، ومن أشدها خطراً توهم نثريتها بمعنى ضدية الشعر والإنتساب للنثر بنوعه المعروف.

س6- اهتممتَ كثيراً بقصيدة النثر ووضعت كتباً فيها، هل هذا يعدُّ مسايرة للعصر ، أم أنَّ قصيدة النثر بحدِّ ذاتها مشاغبة ولفتت شغفك؟

ليس الأمر ( مسايرةً للعصر) بقدر الحماسة للتحديث ذاته داخل عصرنا الشعري.إحساس بأنَّ القصيدة العربية ذات غنى لغوي ودلالي وإيقاعي يمكّنها من التجدد ولو بواسطة اقتراح المشاغبة كما وصف السؤال، وهذا يجعلها (هي) مسايرة لما في الزمن الشعري من تبدلات في القراءة والكتابة.لم يكن معقولاً أن تتجدد الحياة من حولنا ولا ينال الفنُّ شيء منه.ولا شكَّ أن قراءة نصوص قصيدة النثر في فترة روادها ومن تلاهم عززت رؤيتي لضرورة التحديث ، ومشروع قصيدة النثر وبرنامجها الجمالي والفني .

س7- ذكرت أنَّ الغموض في قصيدة النثر يختلفُ عن غموض الجرجاني في الغوص والبحث عن الدرر، هل هذا يعني أنه نوع من الرسائل الغامضة المتجهة إلى داخلها والدالة على نفسها كما وصفها " جاكوبسون" بالرسالة الانطوائية؟

قصيدة النثر قصيدة دلالية في المقام الأول. يرد ذلك لدى نقاد موطنها الأصلي.ولدى جاكوبسون خاصة. وتؤكد ذلك قراءة نصوصها برؤية نقدية، وهذا مافات كثير من كتابها للأسف. فشاع التحديث الأول من خلالها بالتركيز على اللغة وغرائبية العلاقات فيها ، وكذلك الغموض المتعمد أو غير المفضي للدلالة باستفزاز قدرة القارئ وذخيرته.الغموض لدى عبدالقاهر الجرجاني سمة للنصِّ الشعري ووصف لطبيعته.ونظريته في النظم أو شعريته تركزت حول معنى المعنى، وضرورة الغوص لاكتشاف درر النص ، والمتعة التي يجنيها المتلقي من ذلك، وتشبيهها بمتعة الغواص بعد معاناته . ولكن غموض قصيدة النثر بكونه دلالياً في المقام الأول ،فإنه يسمها بذلك الغموض الذي يحل إشكالاته صبر القارئ وتفهمه لدور السرد فيها ،وإيقاعاتها المقترحة داخلياً، وليس عبر استعانات خارجية كالقافية والموسيقى الوزنية. 

س8- أشار النقادُ إلى المزج والخلط ، وإلى وحدة الفنون في النصِّ الحداثوي، هل هذه دعوة إلى تخطي حدود الأجناس والأنواع الأدبية ؟

نعم. هي كذلك، فالحدود بين الأجناس لم تعد جدّيّة كما كانت حسب النظريات النقدية والجمالية القديمة.ليس من (مجال) خاص بتعبير ليسنج ، بل تعدى كلّ فنّ أسواره المفترضة، واقترض من سواه. يحدث هذا في المسرح مثلاً والإستعانة بالبصريات ، وفي الرسم وظهور الحروفية مثلاً و اللوحة الرقمية والرسم المفاهيمي، أو التركيبي و التجريد .وتلك المجاورات الإجناسية يجب أن تتم دون أن يفقد النوع سمته الفارقة، وأن يجري الإنفتاح من مركزه أولاً.وهذا ما نراه ضرورياً لفهم دور السرد في قصيدة النثر بوجه خاص، كي لا تتحول النصوص الشعرية قصصاً قصيرة.

س9- أتراها خلخلة أم ثورة لاستقبال المولود المهجن كي يحملَ سمات من أنواع مختلفة؟

التهجين كمصطلح جيني يناسب كثيراً من الفنون اليوم، وهو صحي كما جرى في تهجين النوع النباتي واستيلاد نوع مطور منه، وإن اختلف شكله عن المألوف .وأعتقد بأن تهجين القصيدة بعوامل وعناصر من نوع مجاور أغنت القصيدة .

س10- ما الذي يدفعك كي تنقد نصاً ما ، هل ثمة إشارة تتلقاها منه؟

بالضبط..ثمة إشارة أو رسالة في النص يلتقطها المتلقي وكأنها مرسلة له وحده.وهذه إحدى متع قراءة الشعر وجمالياته، فللذوق إذاً دور في ذلك دون شك. لكنه يقوم من بعد على التعليل، وليس كما جرى في نقد النصوص الشعرية الأولى دون تعليل في نقدنا القديم لاسيما في المرحلة الشفاهية.أحياناً لأغراض بحثية صرف قد ترد بعض النصوص كعيّنات أو أسانيد لتعضيد أطروحة الدراسة، ولا يعني اختيارها تزكية لها .في النقد الحديث ثمة إضافة في القراءة النقدية تفترض الحياد في الإختيار والوصف دون الحكم .

س11- للمرأة قسم كبير من اهتمامك ، هل تؤمن بإبداعها؟ أم لأنك ظللت مدة طويلة تدرّس مادة الأدب والمرأة في الجامعة؟ 

تدريسي لمادة المرأة في الأدب، وأدب المرأة أضاف لي كثيراً من القناعات حول الموضوع؛ أسهم طلاب وطالباتي عبر بحوثهم ومناقشاتهم في ترسيخها.لكنني نقدياً وبعيداً عن المتطلبات الأكاديمية أصبحت لديَّ قناعة بأن ما تسلط على المرأة - و هو ما أبرزته الدراسات الجندرية - له دور كبير في تشكل نصوصها .لا يعني ذلك أنها تنتج نصوصاً مختلفة عن النوع الأدبي، لكنها في ما تكتب تعكس بوعيها النوعي مشكلات جنسها وما تعانيه. ليس للدرجة التي وصفتها بها النسويات الأوائل مثل هيلين ساكس التي ترى أنَّ المرأة محتلة كالبلدان المستعمَرة، ولكن بقياس وعيها بذاتها وما تحس به .النسوية المتطرفة لا تؤمن حتى بوجود نصِّ نسوي ،بوهم أن ذلك يميزها عن كتابة الرجل. والهروب إلى الأدلة اللغوية المميزة للمرأة عن سواها يشوبه غلو كبير ومبالغات . فكثير من اللغات لها قاموس جندر ذكوري ، لكن الوعي بالنوع النسوي يحرر آليات الكتابة ومضامينها.نص المرأة اليوم مواكب لمستجدات الأسلوب الحداثي .هنا يخصني الشعر، وإن كانت المساهمة قليلة قياساً لما فعلت كاتبات وشاعرات في فترة التجديد.أشير هنا إلى دور نازك الملائكة ومقدمتها لديوانها( شظايا ورماد) من دعوة ريادية للتجديد.

س12- كتبت نقداً في شعر الشباب، وكتابك " مواجهات الصوت القادم" يوضح ذلك ، هل كان ظنك في محله حيث أضأت فيه مناطق تجاوزهم للشعرية المتوارثة وأجيال الريادة في العراق؟

كانت مواجهات كتابي عن قصيدة السبعينيين الشبان حينها مواجهات نصية ، فمن إيماني بأن قصيدة الشباب هي قصيدة المستقبل ، واجهت نصوصهم ،وكان موقفي ضدياً في كثير من فصول كتابي الذي كان مبكراً في مراجعة تجاربهم . كثير منهم تطوروا ونضجت تجاربهم .لكن الكتاب يرصد التقليد الجديد والهروب إلى اللغة والتماثل الصوتي بينهم وتأثراتهم التي تبرز واضجة في نصوصهم.لكنني بصراحة شديدة أقول: إنني كنت أعوّل علي كتابتهم أكثر مما حصل اليوم ، فلم يستطيعوا أن يؤثروا عبر تجاربهم في المشهد الشعري لقصيدة النثر خاصة. وظلَّ الجيل الأول مدوياً ومؤثراً.وأضاف الستينيون ما رسخ تجاربهم ونشر تأثيرهم في الكتابة الشعرية محلياً وعربياً، وكذلك فعل الرواد حيث بدأوا شباناً لكنهم تقدموا إلى المشهد بثبات أكثر وبرز أثرهم سريعاً.ذلك لم يحصل مع سبعينيي العراق للأسف، وانزوى جلهم ولاذوا بالصمت إعلاناً عن تعثر تلك التجارب التي صاحبها كثير من التتشويش السياسي، والمناحرات لنظرية الجيلية، ولكن خارج النصوص غالباً.وتعداهم جيل الستينيات الشعري وعبَر فضائهم الزمني. ودليل ذلك ما أضاف شعراء جماعة كركوك - سركون بولص وصلاح فايق وفاضل ٍالعزاوي مثلاً- .

س13- عناوين كتبك داهشة ولافتة ، حين تختار العنوان هل تختزل الأفكار التي ستأتي فيه ، أم تلجأ إلى مقولة ملخصة لأحدهم وتبني عليها كما في كتاب " قصيدة النثر وحجاب التلقي" إذ هي مقولة ل جبرا ابراهيم جبرا: " ثمة حجاب بيننا وبين وعينا"؟

كثيراً ما لاحظ القراء والنقاد اهتمامي بالعنونة ،حتى قبل أن أتبنى تركيز نظريات القراءة والتلقي على العتبات النصية ،وموجّهات القراء من عناوين وأغلفة وإهداءات ومقتبسات ومقدمات وسواها.كنتُ وما زلتُ أعتقد بأن الأغلفة والعناوين في مقدمتها تمثل مصافحة أولى مع القارئ، وتعبر عن شخصية الكاتب ذاته ،وتعمل على ربط القارئ بمحتوى المقروء، أو جماليات العنونة التي تصل أحياناً حدَّ استعارة أليغورة أو مثل .فعلت هذا في كتابي (مالا تؤديه الصفة ) حول الإيقاع في قصيد ة النثر ،مستعيراً قول إسحاق الموصلي حين سُئل عن تعريف النغم ووصفِه فقال (إن من الأشياء أشياءَ تحيط بها المعرفة ولا تدركها الصفة).وفي كتابي حلم الفراشة ) استعرت مأثوراً صينياً عن فتاة حلمت بأنها فراشة وحين استيقظت لم تعد تعرف إن كانت فتاة حلمت بأنها فراشة، أو فراشة حلمت بأنها فتاة، وقد استعارها أنسي الحاج في قصيدته التي حللتها ( فتاة -فراشة- فتاة) مع تحوير في الخاتمة، وكنيتُ بهذه الاستعارة عن كون النثر دخل حلماً في متن القصيدة فلم تعد تعرف جذؤرها.أما ملاحظتك عن حجاب التلقي ، فهو في الحقيقة شعار ندوة عقدت في أبو ظبي وساهم فيها نقاد وشعراء.واستعرت الشعار لدلالته وإحالته إلى المعضلة المتمثلة في تلقي قصيدة النثر .

س14- هل ثمّة حجب أخرى يمكنك أن تضيفها؟

نعم ..ثمة.حُجب أخرى منها ما يمسُّ كيان قصيدة النثر، وتخلصها من التطويل والثرثرة ،وتركيز شعريتها في الدلالة المرسلة عبر عناصر نصية أخرى.إنَّ أهم الحجب اليوم يكمن في التكيف المطلوب لتعيش قصيدة النثر عصرها الانفجاري تقنياً ، وألا تنزلق إلى رقميات تشاركية بدعاوى التفاعل واستثمار الفضاء التقني.أرى شخصياً أن ذلك الفضاء ذو مهمة تواصلية فقط، ولا يجب أن يغير من ماهية الشعرية اللازمة لقصيدة النثر والشعر عامة.هي قصيدة شاعر واحد وقارئ مقابل له.ولا يمكن إتاحتها لألاعيب التشارك والتفاعل ليكون النص مسخاً ذا آباء كثر.

س15- تحملُ هاجس الاشتغال على اللغة في نقدك حتى يصبح قابلاً للقراءة ، أي للغتك النقدية بعدٌ جمالي، بينما لغة النقد جافة وصعبة كونها تستخدم مصطلحات ومفاهيم!

يعلل بعض الزملاء الذي أرّخوا، أو راجعوا الحركة النقدية العراقية ما رصده سؤالك حول لغة النقد في كتاباتي ، بالقول إنه من النشأة الإنطباعية التي مررت بها في مراحل كتابتي النقدية الأولى شأن جل زملائي. لكنني في منحى اهتمامي بلغة النقد وعرض الفكرة أدبياً وبلاغياً ، أؤكد أدبية النقد. إن خطاب النقد أدبي في المقام الأول ، والكلام على كلام الشعراء خاصة ،والملفوظ النصي عامة، يجب أن يرقى إلى شكل الرسالة الشعرية ومضمونها وجمالياتها.وللقارئ مكانة هنا ليستلم رسالة أدبية، فيها تجليات لغوية ليست باروكات أو زينة فوقية ، بل هي من صلب الخطاب الأدبي.اليوم يزداد دفاعي عن أدبية النقد حماسة وسط هجمة النقد الثقافي - في نسخته العربية طبعاً!- على أدبية النقد والزعم بموت النقد الأدبي وانتفاء الحاجة للنقد كممارسة جمالية؛ بحجة أو وهم أن النص نفسه لم يعد يعني جمالياً أي شيء.هذا في خطاب نقاد الثقافة العرب المنهمكين في كشف الأنساق الفاعلة في إنتاجه، وكأنهم بادلوا مواقعهم مع السوسيولوجيين. لغة النقد الأدبي جزء مهم من عناصر الخطاب النقدي، ولا يمكن تصور الممارسة النقدية بعيداً عن جماليات اللغة .وعكس ذلك يسهل مهمة من لايملكون ناصية اللغة، ولا يجدون في تجلياتها القاموسية والتركيبية والدلالية ما يضيفونه لكتاباتهم الشاحبة والخالية من مهارات اللغة التي بها تكتب النصوص، ويكون عدلاً أن تنهض اللغة لتكافئ الملفوظ النصي وتوازيه. يترتب على دعوة موت النقد الأدبي إهمال النصوص ذاتها، وتلك مشكلة معرفية هي من مشكلات الخطاب النقدي المكتفي بالوصف المنهجي، والمصطلحات المجردة دون إجرائها نصياً في الدراسات. 

س16- اشتغلتَ على نقد الحداثة كما أسلفنا ، ما ملامح هوية قصيدة النثر؟

تطول الإجابة على هذ ا السؤال وتستدعي أدلة وحججاً، بيّنتُ أغلبها في ما نشرتُ وما نشر الزملاء الشعراء والنقاد من دراسات ورؤى.لكنني مختصراً أقول إن ( نقد الحداثة ) في أطروحة كتابي بالعنوان نفسه، إنما ينبني على ما واكب التحديث الشعري من مهاد نقدي معضد له، وفيه رجعت لبعض تلك الممهدات الفاعلة في التحديث ، ولكن هوية قصية النثر تشغل المهتمين بحداثة الخطاب الأدبي عامة وجماليات النصوص.وكذلك تتكون تلك الهوية من عناصرها المقترحة والمتغيرة نسبياً من نصٍّ لآخر.هي قصيدة شاعر كما أسلفت، لذا فلكل شاعر قصيدة نثره ،إلاَّ من سلك طريق الإحتذاء والتغذي من نصوص سائدة أو موضات أسلوبية شائعة، وليس بمثل هذا الصنيع تتخلقُ النصوص المغيرة والمؤثرة.

س17- ماهي الأسباب وراء ضعف تلقي قصيدة النثر؟

أظن أنني قدمت في جواب سابق بعض تلك الأسباب ، وفي مقدمتها الوقوع في أسر النموذج والبحث عن نسخ مقلدة له ،لكي تتطابق مع أفق قراءة المتلقي.هذا الأفق يتكون بفعل التربية الأولى والمدرسة، وموقع الشعر في حياتنا، ونظرتنا الإجتماعية للتغيير وللفن بوجه خاص.أعني لجمالياته ومفرداته وعناصره.ولا شكَّ أنَّ الأمية وتدني التعليم، والهفو نحو التقليد ، والفهم القاصر للحفاظ على التراث، والتمسك بالماضي كصفقة واحدة، هي نقاط جديرة بالتأمل في مسألة سوء القراءة ، وصلة المتلقي السلبية بقصيدة النثر. ولا شك أن ضعف بعض نصوص قصيدة النثر، وتباطؤ أو تأخر التنظير لها، أسهم في تلك القطيعة والتخلف في تلقيها.

س18- هل تعترف بأنَّ النقد في أزمة؟

ليست المسألة اعترافاً .الأمر بحاجة لتبين المقصود أولاً بالأزمة؛ هل هي منهجية أم جمالية ؟ لوجستية أم هي تواصلية؟ وانقطاع نظري أم غياب التطبيق والتحليل النصي أحياناً؟أعتقد أنَّ الأزمة إن وجدت بهذا المعنى، فهي في المنهجيات أولاً ،ومحاولة تبنيها دون تدقيق أو رفضها بالحجج المعهودة ذاتها ، كلما يرد ضخ معرفي أو منهجي جديد يرفضه الجسم الإجتماعي ،ويتمدد ذلك على الرؤى النقدية.وأعتقد أنَّ قلة ما يترجم في الجماليات النصية وقراءة النصوص هي من أسباب ما يبدو أزمة في المشهد النقدي.لا أتفق مع من يثبت وجود الأزمة بحجة عدم ملاحقة النقد للنصوص بما يكافئ عددها وتنوعها.وهذا ليس نقصاً في الفاعلية النقدية التي لا يجب عليها أن تتابع (كل) ماينشر، بل تتقصى الإضافة والتنوع والتجدد.لقد كان نقد السرد أكثر اتزاناً واستحابة لما يقوي الخطاب النقدي، وتقدمت دراسات السرد وتطبيقاته غيرمتخوفة من تغذية النقد الأدبي بنظريات السرد الحديثة، وأسقطتها على المتون بلا موقف مسبق، وهذا ما يعوزنا في النقد الشعري.

س 19- هل يتطور الشعر بعيداً عن النقد؟

ليس النقد مرشداً يقود سفينة الكتابة الشعرية إلى برٍّ آمن. إنه يضيء عبر التنظير والممارسة طرق الكتابة ويفحصها ، مواكباً أو متقدماً، وأحياناً عبر استقراء ما تقدم النصوص من مبترحات أسلوبية، وتضيف لخطاب الشعر، فتبدو وكأنها تقود كشوفات النقدوتوصلاته.وهي علاقة جدلية في ظني ، يتعهد المنهج والقراءة في تعديلها وبلورتها، وصولاً إلى متلقي القصيدة و متقصي جمالياتها.

س20- ما هي المعوقات والتحديات التي يواجهها النقد العراقي؟ وهل ثمّة أسماء نقدية في الساحة؟

النقد العراقي يعاني ما يعانيه النقد الأدبي العربي عامة؛ لكنه كسب رهان اقتحام أسوار التلقي الرسمي ممثلاً بمنابر النشر، والدراسات الجامعية. صحيح أنه لم تتم قراءته عربياً بشكلٍ كافٍ كما حصل مع الشعر العراقي، لكنه حاضر في المنهجيات والتلقي . ويضيف الكثير مما يقربه من متلقيه وكتابة القصيدة أيضاً.لقد خف العداء للنقد والنقاد الذي كان في عقود سابقة، وكثير من الشعراء يتولون اليوم مهمات نقدية وأكاديمية تخدم التحديث وترسيخ النقد الأدبي وتقاليده .ويردون هجمة النقد الثقافي العربي على وجوده ، والخطر التقني الداهم أيضاً.والواضح في الإصطفاف النقدي العراقي اليوم تنوعه بين نقد السرد ونقد القصيدة، وبين الدراسات الأكاديمية والنقد المنهجي، وحضور أجيال من النقاد تتعايش وتتحاور وتكمل مهمة بعضها البعض.

س21- هل تمتلكُ الحرية الكافية لتقوم بعملية النقد؟

الغريب أن مطلب الحرية اليوم توسعت مفرداته. كان الرقيب السياسي يحدُّ من الحرية، لكن الجمهور والتلقي النسقي هما من يخيف الكاتب اليوم؛ فضلاً عن بعض الترتيبات الاجتماعية التي لا تغيب للأسف ، وتمثل أحياناً محددات لحرية الكتابة.ولا شك أنَّ الإنقسامات السياسية شعبية ورسمية ،بدأت تؤثر على النشر والتواصل وتبادل خبرات الكتابة.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة