تقديم : نموذج متقدم للمقاربة الكلية في تحليل النصوص للدكتور حاتم الصكَر

يقدم هذا الكتاب وعداً منهجياً بمثابة ميثاق قراءة بين المؤلف الأستاذ  عبدالحفيظ العابد وقارئه ، بأن تكون مهمة الكتاب ((قراءة في بنية قصيدة النثر لا تاريخها)) . وبهدي هذا الوعد الملزِم قارب العابد نماذج من قصيدة النثر في ليبيا ،مخضعاً إياها للتنميط المنهجي والخطوات الإجرائية التي اعتمدها بانتظامٍ مسؤول نظرياً ، ومنضبطٍ في التحليلات النصية التي لم تكن مجرد تطبيقات للرؤية المنهجية ، بل حواراً مع النصوص التي اختارها لتزيد الفرضيات والحدوس النظرية وضوحاً ورسوخاً. ولم يكن العابد أسير خطوات منهجية مسقَطة على النصوص بتعسف أو قهر، فهو يستعين بالمشاكلة وتنويعاتها كما تتجلى في النصوص التي انتظمت تحت التصنيفات التي افترضها، لكشف وجودها كما تنضدت في النصوص وبمستويات يستوفيها الباحث بتعمق رؤيوي ، وبيانٍ لا يرهق النصوص ولا يغفل تميزها . قد تبدو النصوص هنا تابعة للمقترَب  وتاليةً للقناعة بآصطفافها ضمن ما استنبطه المؤلف.لكنها في الحق اكتسبت وجوداً بالفعل بعد أن كانت ذات وجود نصي بالقوة. وهكذا تتالت نماذج قصيدة النثر في ليبيا متجاوزة الفرضيات أوالإنتماءات الجيلية، ولا يحكمها إلاسياقان: كونها مكتوبةً قصائدَ نثر، ملبيةً لافتراضات التقسيم النوعي المعروض هنا. وأجد أن المقاربة التشاكلية قد حررت القراءة من صنمية المنهج،و ذلك بجمعها بين بين الدلالة كنتاج نصي، والتشاكل البنيوي للنصوص، ما يعني التعامل مع المتن النصي بكونه كلاً موحداً. وهذا يناسب مفهوم  التشاكل الذي يعني جوهرياً مقاربة النص مقاربة كلية بتحليل المقومات أوالعناصر الداخلية له، والعناصر السياقية أيضاً. وهذا يمنحه المرونة والشمولية ،فالمؤلف لا يستثني مثلاً - رغم متابعة التكرار البنائي والدلالة الموضوعية -عتبات النص والبنى المصاحبة له خطّياً من رسوم وصور وخطوط وبياض ورقي ،وسوى ذلك من الهيئات الجسدية للنص عند الكتابة. ولا يغفل أيضاً العناصر الفنية في البنى المكونة لقصيدة النثر ، كدراسته للتشاكل الصوري والإيقاعي  ما يعد انتصاراً لشعريتها ودحض الشكوك حولها .ويلامس مسألة ذات أهمية بالغة حول الفوضى الظاهرية في بنيتها. ويرى أن تلك الفوضى الظاهرية منظمة، أو مايسميه فوضاها المنضبطة((عبر معاينة انتظامها الداخلي الذي يضبط فوضى اللغة واستخدامها غير المعتاد من خلال مفهوم التشاكل)). ومن أبرز صور التشاكل الإيقاعي ما بيَّنه العابد من خلال دراسة الإيقاع الداخلي واكتشاف أنماط منه تدعم القول بوجود الإيقاع الداخلي البديل في قصيدة النثر. وإذا كان المنظّرون يرون أن التشاكل يوازي المماثلة في التراث النقدي ، فإن العابد يذهب إلى أبعد من ذلك حين  يتبنى ما يتجاوز مفهوم غريماس المحدد بالمهمة  المضمونية، ويتبنى التطويرات اللاحقة للمفهوم، واستيلاد أنواع من التشاكل تعتمد التكرار لكنْ عبر بينات لسانية ذات جذر تركيبي نووي أو بؤري . ووجدت هذا قريباً من مفهوم النقد الموضوعاتي الذي تزعمه جان بيار ريشاركأبرز منظّريه وواضعي أسسه بمعيّة  باشلار وجان روسي وسواهما. حيث يتم الحديث عن نقد بؤري أو جذري- بمعنى متابعة خلية المعنى  وبؤرتها المركزية التي يكشفها درس العناصر المكررة. ويحبذ ريشار هذا الوصف لأنه يرى أن  كلمة(جذر) هي ((اللمعة أو الخلية الرحمية الأولى للموضوع(حيث) تنبثق من الجذر بطريقى توالدية أو وفقا لنسق ..)). لقد اعترف غريماس باضطراب مفهوم التشاكل سيميائياً ، وحاجته إلى البلورة والصقل المفهومي كما وضح الدكتور عبدالملك مرتاض في (نظرية القراءة). ورأى  غريماس وهو يناقش عبدالكريم  حسن في رسالته ( البنيوية الموضوعية في شعر السياب) ضرروة أن يكون الهدف  من التحليل هو(( دراسة الموضوع جزءاً من التركيب الفني للعمل)) . وليس العكس.رافضاً دراسة التركيب الفني جزءاً من الموضوع. وأعتقد واثقاً أن العابد أضاف بمنهجيته واستقرائه للنصوص ما ينجز جزءاً من المهمة التي أشار إليها غريماس في الحاجة إلى البلورة والتخلص من الإضطراب في مفهوم التشاكل. إن  القراءات المنهجية للنصوص تعاني غالباً من استخدام آليات مفاهيمية دقيقة تلتهم بانضباطها الطبيعة الفنية للنصوص التي تتصاغر إزاءها.لكنني أزعم أن العابد نجا من ذلك بحميمية قراءته لقصيدة النثر في ليبيا،فلم يهرب للتحدث (عن) النصوص، بل اختار الحديث  ( إليها) لآستخراج مكامن فنيتها غير المعلنة . وما أسماه((تجاوز ظاهر المعاني إلى إيحاءاتها الكاشفة)). ويتوقف  لبيان ذلك عند التكرار المنتظم لعنصر ما أو عدة مقومات متضافرة ((جميعها لتنمية البؤرة الدلالية، وتوسيعها)) . في دراسة التشاكل لم يهمل المؤلف تعارضات المعاني والأبنية أو التباينات الموصوفة  (بالعارضة) بمسمىً آخر، والتي يولدها الإنزياح.بينما توصف التشاكلات بالإستقرار والثبات. وتكون مهمة القراءة هو الكشف عنها.   ولتعزيز النزعة السردية في قصيدة النثر يبحث الكتاب في التشاكل السردي:  ليرينا  انفتاح القصيدة على السرد وأنواع الساردين ورؤاهم وموقعهم  بعيداً عن هيمنة الصوت الواحد. فيعزز الجانب البوليفوني في السرد. وكذلك في تقنية اللقطة والمشهد والعلاقة بين الشعري والسينمائي. وذلك تناص نوعي من المهم تشخيصه في بنية قصيدة النثر.وهو وجه آخر لانفتاح قصيدة النثر -بحكم حرية كتابتها- على الفنون واقتراضها منها ،ولكن انطلاقاً من المركز الشعري أو الرؤية الشعرية.  وفي دراسته للتشاكل الصوري: يقارب العابد شعرية الصورة في النص كونها متصلة كالمعنى بالدلالة الكلية للنص.ولكن هذا الإشتباك او التشاكل االصوري لا يصح  في رأيي على نصوص (الومضة) كما سمّاها وأجرى مصطلحها من بين مصطلحات ممكنة أخرى. إن التطبيق على الومضات  دليل على جزئية الصورة وخدمتها للدلالة منفردة، لانتفق مع ماذهب إليه المؤلف في كونها لا تفيد إلا ضمن سلسلة الصور الكلية في النص.  ويلاحظ  كمرونة منهجية وتحقيق لكلية التشاكل ،مراعاة المؤلف الجوانب السياقية عند التحليل؛  كالظروف الإجتماعية للنص أو السياقات السوسيولوجية  وتفاعل القصيدة مع العوامل النفسية والإجتماعية المكونة للشاعر. ولا أغالي حين أصف جهد الأستاذ عبدالحفيظ العابد في هذا الكتاب بأنه فتح طرقاً جديدة لدراسة قصيدة النثر بعيداً عن تكرار المناقشات العقيمة حول مصطلحها وتاريخيتها . وقدم ما نحن بحاجة له من مقاربات تحليلية تردف التنظير المفاهيمي بعينات نصية .فقد كان وضوحه المنهجي معيناً له في تلمس شعرية قصائد النثر التي كانت مادة للتحليل ،وتبين الإيحاءات الكلية المشيرة للتشاكل كعنصر بنيوي وسياقي، كما كان يطارد الدلالة في تخفياتها التعبيرية المرمزة كواحدة من طبائع الشعر ولغته وإيقاعاته. فيكشفها للقارئ ويرشده إلى دورها في التشكلات البنائية المولدة للبؤرة الدلالية في النصوص. سيجد القارئ كما وجدت متعة مضافة لتحليلات الكتاب متأتية من النماذج التي اختارها والتي أعترف أنها فاجأتني كمهتم بقصيدة النثر العربية ربما لانقطاع التواصل والإطلاع.فهي ذات بنى لافتة من حيث التركيب والدلالة والصورة والإيقاعات.ويحسب للصديق العابد أنه عرفنا بها ووضعها مبوبة فنياً وليس جيلياً أو تاريخياً. ناشفيل-تنسي 5-10-2020 .

ويُحسب للأستاذ العابد أنه عرفنا بها، ووضعها مبوَّبة فنياً ،ولم يرهن جهده البحثي بمتابعتها تاريخياً أو جيلياً، كما دأبت بعض الدراسات النقدية في المجال نفسه.

تم عمل هذا الموقع بواسطة