مقال للشاعر فتحي عبد السميع عن ديوان راعي المياه لفتحي عبد الله

 فتحي عبد الله واحد من أبرز الأصوات المؤثرة في مسيرة قصيدة النثر المصرية، وقد كان مفصلا مهما، في حركة الشعر العربي، وهو يراجع تجربة السبعينات، ويسعى لاكتشاف أرض جديدة. 

عندما نقرأ ديوانه راعي المياه الصادر عام 1993، نجد شابا يمتلك الكثير من المهارات الفنية، واعيا بما وصلت إليه حركة الشعر، ومراجعا لها، يرغب في تحويل دفتها إلى مسار جديد. بخلاف لغته الخاصة، يظهر اعتماد الشاعر على الصور المتوالية، مع وجود مسافة بين كل صورة والتي تليها، مسافة تُباعد العلاقة بين الصورتين، الأمر الذي يُولد قدرا من الغموض. يقول في قصيدته سماء عابرة: {لا مانع من سقف دون الجدران/ الحرب حالة نوم/ في السوق حائط يمشي/ رجل في سلة خبز/ بقرات بالقرب من السماء/ دخل حديقة الأوبرا وسرواله فوق ظهره ...} 

يظهر عمل الشاعر، من خلال كسر الصور المألوفة، ونسج صور جديدة. من خلال تجريد بعض المفردات من قمصانها القديمة، وتقديمها في هيئة جديدة، فالسماء هنا عابرة، ويمكن أن تسقط أمام البيت. اللانهائي في تصورنا الراسخ يتحول إلى محدود، والخالد يتحول إلى عابر، والعلوي يتحول إلى سفلي.

 تبدو الصور كما لو كانت تتحرك في فضاء مجاني، خاصة مع بعد العلاقات بين الصور، لكن تأمل الصور يكشف عن وجود رؤية، فارتباط الحرب بالنوم يبدو غريبا، وبعيدا عن الواقع، كيف يحضر النوم في ظل القتل والدمار؟ لكن تحرير النوم من صورته المألوفة، يغير الأمر، فالحرب حالة من نوم العقل أو القلب، أو كليهما معا، وبدون هذا النوم لم يكن لها أن تنشب وأن تستمر. في المقطع تظهر أصداء بالغة القدم ولها دلالتها، فصورة بقرات بالقرب من السماء، تردنا إلى مصر القديمة، حيث تتداخل رمزية البقرة برمزية السماء، وتتجسد في رسوم ونقوش تحفظها المعابد حتى الآن. والحقيقة أن الروح المصرية تظهر جلية من خلال أكثر من مظهر، فهناك البيئة الريفية في الدلتا، بمفرداتها وتصوراتها، وارتباطها بالحس الصوفي، و الحس الأسطوري الذي يمتد من مصر القديمة ، ويظهر بداية من العنوان الذي يحيلنا إلى شخصية أسطورية ترعى المياه، وتتجلى في صور مختلفة يقول الشاعر: {في شارع الجامعة/ غيمةٌ وحيدة/ أدربها كل يوم على الطيران/ فإذا اكتملتْ وضعتها في جواري}

 هنا تظهر اللعبة المفضلة لراعي المياه، والتي تتمثل في دمج العلوي/ الغيمة، بالسفلي / الشارع، فالغيمة تنضج في الأعالي لتصير ماء يسري في الأرض، الغيمة التي يمكن أن نراها رمزا للكتابة نفسها، ولعمل الشاعر، أو لأي عنصر من عناصر الخصوبة. 

الحس الأسطوري نراه أيضا،حين يتم تقديم ميلاد البطل في ظل هالة تذكرنا بميلاد البطل الشعبي، يقول الشاعر{ حدثتها عن ملائك أمي/ حين قرأن التحياتِ في السر/ وغطينني لأربعين صباحا حتى تكلمتُ.} 

هكذا يظهر ميلاد الكلام مرتبطا بصورة أسطورية، تكشف من ضمن ما تكشف عن ارتباط الشاعر بالروح المصرية، تراثا قديما وحاضرا ريفيا، كما تكشف في نفس الوقت عن ارتباط فني، باعتبارها من أهم روافد الشعر. 

تم عمل هذا الموقع بواسطة