" إيقاع الخيبات " عبد الوهاب الملوح / تونس

كان يكفي 

أَنْ تلقي عليّ سلاما 

وتتركني أعبر حقول اللوز ضحكة نجمة 

كان يكفي 

أَنْ تدلق خمر أصابعك في كؤوس شعري 

حتى يرتجف النّهر في مرايا الشرفات 

كان يكفي 

أَنْ ترفع كأس ظلّك

 لتترك الرّيح تراقص خجل صهيلي 

كان يكفي 

وليس بوسعك الآن أَنْ تغادر سكوتك 

أو تمحو من دفاتر قيامتك عصيان طاعتك 

وقد فاض مابين   

حتى عاد كحصاد الغيم                                                                              

في قراءات المطر،مما رواه الرّمل                                                                 

ولاتدرك العثرات في تكوين الطّين،ولا ما أخفته الشّهوات من لجّة الطّين 

كان يكفي 

أَنْ تختصر كُلّ هذا المستحيل اللزج في دورة صمتك 

وتشدّ على خاصرة الوقت 

بكلمة واحدة دون أَنْ تنطقها 

ويتعثّر اللسان بعهر الشّبهات 

وداعا.. 

رزاق العيساوي/ العراق . 

لا تبلغ القصيدة منتهاها، فهي عادة ما  تفتح بابا بنِيِّة التحرر من  الإقامة الجبرية في المكان والإفلات  من حتمية التأرجح مع بندول الساعة؛ تفتح بابا لتبتكر طريقا، تهرْبه منها إلى حيث يصبح أفقا وتفلت من غيبوبة وجود يتكلس وفي كل هذا هي لا تنشد منتهى إنما تحاول إيقاعها الخاص بها، فالإيقاع المتجدد  هو  الحصانة الذاتية من الوقوع بين فكي  كآبة الوجود وسكونية الكتابة القاتلة  وليس من السهل بلوغ هذا الإيقاع ناهيك العثور عليه فهو ليس مجرد نوتات موسيقية أو وحدات زمنية أو معادلات حسابية  يمكن حفظها وتدويرها بشكل حاذق وهو أيضا ليس مجرد تماهي مع حركات الشهيق والزفير لإيهام الذات إنها على قيد الحياة؛ لعله هذي المداهمة الجريئة لدواخل الذات في محاولة لتفكيكها من أجل الخروج منها والنظر إليها عن بعد، لعله أيضا القدرة على ابتكار مرايا يمكن من خلالها تشييد طريق للفكاك  من قيود الذات. هذي قصيدة تهرب من الضجيج تعتمد اقتصادا مجهدا  في الكلمات فلا تفرط في استعمال أدوات الكتابة ولا تبالغ في استجداء المحسنات البديعية الحديثة ؛ تعوِّل على الإصغاء لارتيابها من حاستها المتحررة فلا شك إن ترديد لازمة "كان يكفي"  أحدث غنائية خافته بل جعل للنص خلفية محاصِرة بما يوحي إن الضمير هذا الضمير الملتبس يريد الفكاك من قيوده غير إن هذه اللازمه كان لا بد منها كصرخة خافته لإنقاذ القصيدة حتى لا تكون مجرد تداعيات ولو أن التداعيات ليست نقيصة غير إن الغلو فيها ينفي عن  النص  شعريته. إن ترديدها بشكل شبه متواتر لم يكن بنيِّة اختلاق لازمة متكررة غايتها غنائية إنشائية فهي هنا تركيب شرطي يتطلب في كل مرة   جوابه  

كان يكفي 

أَنْ تدلق خمر أصابعك في كؤوس شعري    = شرط. 

حتى يرتجف النّهر في مرايا الشرفات = جواب شرط. 

لقد انبني الشطر الأول من هذه القصيدة وفق هذا التركيب غير إنها وهي تتطور من داخلها لا تظل محكومة بهذا القانون فسرعان ما تتمرد عليه في حركة مباغته : 

كان يكفي                                                                                             

" وليس بوسعك الآن أَنْ تغادر سكوتك                                                               

أو تمحو من دفاتر قيامتك عصيان طاعتك                                                          

وقد فاض ما بيننا "                                                                                                                                                                                                                                        

ينكسر قانون الشرط هنا ليحدث حركة مختلفة في القصيدة ويبدأ التمهيد لقفلتها بنسف كل التراكيب الشرطية الأولى وإعادة البناء من جديد في انعطافة  مباغتة ولئن بدا في الظاهر إنها تكسر الإيقاع الأولى غير إنها في الحقيقة ترويه وتدفع به نحو الأعلي بنيِّة التحرر والإفلات التي أشرت إليها في البداية، ذلك ما أسميه فخاخ الدهشة في القصيدة والمكر الفني وهو أحد وجوه شعرية هذه القصيدة غير إن قصيدة النثر لا تكتفي بمجرد هذا التجريب الإيقاعي على مستوى بنائها العام فهي أيضا شغل فني يعتمد على التخييل وما قد ينتجه هذا التخييل من صور شعرية تساعد في بناء الدلالة وتشكيل رؤيا على أن لا تأتي هذه الصور من خلال البلاغات الاستعارية المجازية التي من شأنها في حال لم يتم استخدامها بشكل جيد  أن تشيع الإبهام وتتحول إلى مجرد تعبيرات فنية شكلية أو طلاسم ولأن مدار القول صراع بين أنوات الذات في هذه القصيدة فقد جاءت الصور مكثفة مشحونة الدلالات متنامية حسب حركات إيقاع تشكيل البنية : 

_" أعبر حقول اللوز ضحكة نجمة" 

_" أَنْ تدلق خمر أصابعك في كؤوس شعري حتى يرتجف النّهر في مرايا الشرفات                                                            

حتى عاد كحصاد الغيم                                                                           

_ في قراءات المطر،مما رواه الرّمل                                                                                                                             " 

فبقدر ما تتقدم القصيدة  تهيئ لحدوث الخيبة وهذا التقدم نحو الخيبة رغم الوعي به لا يجيئ من خلال العويل والانتحاب بل من خلال استجلاب مصادر الفرح / النجمة /اللوز /النهر /المطر الخ…. لتختتم بعبارة وداعا وقد ابتدأت بعبارة سلاما  وهذا وجه آخر من وجوه الشعرية غير إن اللافت في هذه القصيدة إنها حلبة صراع بين أنوات الذات تلك التي تبشر  سلاما وتلك التي تكفن بالوداع وما بينهما هذا التوق للتحرر والإفلات من مصير محتم تلمح  له القصيدة دون أن تباشر بقوله صراحة فالبدء والنهاية هي المتون وما بينهما هو الهامش الذي تقوم عليه كينونة الوجود وهو هذا المرقي الجمالي  الذي يطمح له الكائن. 

لقد قامت شعرية هذا النص على الارتدادية والإمساك بيد الإرتياب  للإفلات من يقين حتمي يفضح يقينا مزيفا وقد تجلت هذه الارتدادية في عنصر الإيقاع المباغت والذي هو في الحقيقة إيقاع الخيبات.وتشكيل الصور الذي يعطي وجها آخر للخيبة وصراع أنوات الذات. هذا الجنوح للتخفف من البلاغة الأدبية الكلاسيكية وتشكيل صور متخيلة مستجلبة من الواقع والمباغتة الشعرية اللافتة هي من أدوات جماعة كركوك صلاح فائق، مؤيد الراوي، سركون بولص الذين أسسوا من حيث لا يتقصدون شعرية مختلفة عن السائد وقتها مختلفة حتى عن مشروع مجلة شعر وأعتقد أن هذه القصيدة هي في سياق هذا المشروع الذي وإن بدا لقيطا غير إنه المشروع الوحيد الذي أسس لشعرية تنهض بها قصيدة النثر العربية. وفي ختام مصافحتي هذه لهذا النص الذكي  أقول  كان يمكن أن تأتي هذه القصيدة في شكل كتلة مضمومة دون اللجوء إلى نظام الأسطر كما كان يمكن  إرواء القفلة بعبارة أخرى عوض "عهر الشبهات" إذ بدت لي نشازا في  المعجم اللغوي الذي تكلمت به القصيدة.

تم عمل هذا الموقع بواسطة