غني عن الذكر ، أو ربما يكون من نافلة القول إذا بدأنا حديثنا عن الشاعر" عبدالله راغب أبو حسيبة" ، بأنه ينتمي من ناحية المجايلة إلى ما يعرف بجيل الثمانينيات في حركة الشعرية العربية في مصر ، ذلك الجيل الذي أتى ـ كما أردد دائما ـ بوصفه واسطة عقد بين جيلين ، أحدهما جيل السبعينيات ، والثاني ما أطلق عليه جيل التسعينيات ، فقد توسط هذا الجيل هذين الجيلين ، وأتى بحسبانه ضابط الإيقاع للحراك الشعري في هذه المرحلة ، فقد تجاوز هذا الجيل المزلق السبعيني الذي شغل ثلة غير قليلة منه أنفسهم في دوامة البحث عن أشكال جديدة للكتابة مما أوقعهم في شراك الشكلانية التي لا تخدم النص الشعري بأية حال ، ونفر هذا الجيل أعني جيل الثمانينيات من المأزق التسعيني الذي أسرف طرحه الشعري في نثرية فجة ، إضافة إلى عدم اكتراث البعض منهم بالصحة اللغوية على المستويين البنائي والمعياري ، ناهيك عن إسراف ثلة منهم في كسر التابوهات الدينية والاجتماعية والسياسية ، أتى هذا الجيل / جيل الثمانينيات ليعيد للشعر بهاءه في مستويات الأبنية والتشكيلات والمضامين ، وأتى معه شاعرنا عبد راغب أبو حسيبة المحتفى به في هذا المقام ، ليأخذ على عاتقه ـ مع مجموعة من أقرانه ـ مهمة أن يعيد للشعر رونقه وللغة صفاءها وعنفوانها بعيدا عما كانت عليه ـ بين أيدي هؤلاء ـ من الزوائد والذيول ، فقد صفّى هذا الجيل اللغة من معجميتها ، واكتفى من فصاحتها ـ بالمعنى المعياري القديم بصحة تراكيبها وأنساقها ورأى في هذا الكفاية . والآن ، ونحن على هذا النحو سنكون على موعد مع عبد الله راغب أبو حسيبة من خلال ديوانه الأثير " هذا الراقص " (1) الذي سنقف معه من خلال استدعائه لشخصيات تاريخية ذات أثر بالغ في الضمير الإنساني بوجه عام ، وفي الطرح الشعري على وجه الخصوص فقد لجأ الشاعر المعاصر إلى استيحاء الشخصيات التاريخية ، وتوظيفها كتقنية فنية مستحدثة " ليسقط من خلالها الماضي الذي تمثله الشخصية المستعارة أو المستوحاة بدلالاتها الأخلاقية والتاريخية الموروثة على الحاضر الذي يحياه الشاعر ويكتوي بلحظته الراهنة ، بغية كشفه والنفاذ إلى عمق قضاياه ، لتنمحي وقتئذ فوارق الزمان ، فالزمان نسبي ، وهو بالنظر إلى طبيعة الإنسان التي لاتتغير واقف جامد لا يتحرك فالزمن واحد والإنسان واحد ، وهو في صراع أبدي بين المثال والواقع" . (2) وعلى كل حال فإنه من المؤكد أن هناك مسوغات عدة أدت بالشاعر المعاصر إلى العمل من خلال تقنية القناع أهم هذه المسوغات الجانب السياسي والاجتماعي ، فمما لاشك فيه أن عالمنا العربي يكتوي الآن بموجات من التخلف والاستبداد ، وفي اللحظة التي يحاول فيها الشاعر أن يسلك مسلك الناقد أو الرافض لهذه الأوضاع في ظل نظم كهذه ، فإن نقده أورفضه لهذه الأوضاع قد يجر عليه ألوان من الحصار ، وربما الاضطهاد والأذى في أحايين كثيرة ، وعندها لم يكن أمامه ـ في مواجهة هذا كله ـ سوى الاحتماء بالتراث مستجيرا بأقنعته ذات المنزع التاريخي ، بعيدا عن مغبة تعرضه لهذا الحصار والتضييق ، متحاشيا ما يمكن أن يحل به من أذى . وتقنية القناع هذه تمنح الشاعر مسارا للتعبير يفصح من خلاله عمّا يجول بخاطره من أفكار على نحوفني يأخذ بيديّ القصيدة بعيدا عن المباشرة والاستسهال من ناحية ، وينأى بالشاعر عن أن يصبح فريسة سهلة لإلحاق الأذى والملاحقة ! ثمّ إن هناك عوامل فنية ، وهي الأجدر بإدراكها ففي هذه التقنية / تقنية القناع يتم إضفاء لون من ألوان الموضوعية على القصيدة تشكيلا وأبنية وعرفانا . والحق أن الشاعر باستحضاره لتقنية القناع ، واستدعائه للشخصيات التاريخية ، إنما أراد أن يفي بمتطلبات عدة منها ـ كما ذكرنا في موقف مماثل ما يلي :
أولا : أنه يستدعي ذات الشخصيات بحسبانها متكأ يستجير به أثناء عملية بث رسائله ذات الشفرات / رسائله الشعرية .
ثانيا : أنه يستلهم هذه الشخصيات بغية التأمين على مواقفها سعيا لمناصرتها : منافحا عنها ، ومقرا بمصداقية توجهها . ثالثا : أنه يستثمر تلك الشخصيات وصولا إلى تأمين مواقفه هو متخفيا وراءها فيما يشبه الإيهام بأن المتحدث ليس هو ، وإنما تلك الشخصية المستدعاة ، مؤثرا السلامة ، ومتجنبا مغبة المساءلة . للقناع إذن سلطته على النص ، يحرك دواله ، ويأخذ بيدها حثيثا نحو بلوغ غاياتها ، وإيصال رسائلها على الوجه المبتغى ، وعلى كل فإن الشخصية في القصيدة " ليست سوى قناع ينطق الشاعر من خلاله ، فيتجاوب صوت الشخصية مع صوت الشاعر الضمني تجاوبا يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة " (3) .وعبد الله راغب أبوحسيبة هنا ، ومن خلال قصيدته " لوركا " التي يلتئم بشخصيتها بحسبانها قناعا يعمل به ، ومن خلاله على بث رسائله ذات الشفرات الشعرية ، فيقول :
لوركا
يخلع قبعته
ويرسم عليها جهنم
ثم يلقي بنفسه فيها
لكنه مات وحيدا
على صخرة
تطل على قطالونيا
يعاني من امرأة
عبرت أمامه
تمشي حافية فوق
المحيط
وهي تمسك جسدها بيديها
وتناوله أطراف اختفائها
فيلتقطها
ويصطاد بها لوحة
سوف تكون سفينته
إلى بحيرة أبدية
كانت تهيئ رملها
لقدميه .
بإمكاننا أن نتساءل من لوركا هذا ، ولأي غرض جئ به هنا ليحتل الدال الأول في النص ، وليصبح مهيمنا على بقية الدوال ساكبا مادة فعله في الأنساق والتراكيب ، ومحددا لمسارات المضامين ! فمن هو إذن ؟ إنه فيدريكوغارثيا لوركا شاعر أسباني وكاتب مسرحي ، ورسّام ، وعازف بيانو ، إضافة إلى كونه مؤلفا موسيقيا ، ولد في بلدة فوينتي فاكيروس بغرناطة في الخامس من يونيو عام 1898م ، وتم قتله وهوفي الثامنة والثلاثين من عمره، قيل بسبب الانتقام من والده فيه ، وقيل بسبب شذوذه الجنسي ! على كلّ يحل لوركا في هذا الموقف بكل الاعتبارات سالفة الذكر ، فهو الشاعر والرسّام والعازف والمؤلف الموسيقي في آن واحد ، يستلهم الشاعرشخصيته هنا بوصفه شاعرا أولا ، وفنانا تشكيليا ثانيا ، وهي إهابات مشتركة بينه وبين الشاعر ، ولأنه فنان تشكيلي ، فهناك وشائج قربى تجمع بينه كشاعر ، وبينه كفنان ، لما بين الفن والشعر من قرائن تتمثل في أن كليهما : الفن والشعر يحيلان إلى العاطفة والوجدان ومعنى هذا أن الفن والشعر لاينتميان لنسقين مختلفين ، ففي التجربة الفنية والتجربة الشعرية على حد سواء ، نحصل على قدر من الجد المكثّف ، وننخرط بواسطته في وعينا الداخلي الذي لايفتأ آخذا في الاتساع والنمو والتمدد ، ونطرح ماكنا منغمسين فيه من تفاهة الحياة اليومية وابتذالها (4) فها هو ذا لوركا الذي يتحدث الشاعر من خلاله ، يرى وهويخلع قبعته ، ويرسم عليها جهنم ، ثم يلقي بنفسه فيها ، والرسالة المتضمنة في هذا الموقف تنحلّ ـ فيما أرى ـ بحسبانها تعبيرا عن موقف الفنان بوجه عام من هذه الحياة التي لاتستحق أن تعاش في رأي الكثيرين من الوجودين الفلاسفة ، فها هو ذا يموت وحيدا على صخرة تطل على قاطالونيا ذلك الأقليم الذي يسعى إلى نيل حريته من خلال السماح له بتحديد مصيره ، وخلاصه المنشود ذلك السماح الذي لم يتحقق بعد ، مما يهيب هنا ، بمناصرة لوركا لقضية الحرية ، ونيل الاستقلال للشعوب الراغبة في هذا ، وهذا ما يؤسس له عبد الله راغب أبو حسيبة هنا أيضا من خلال استدعائه لشخصية لوركا في هذا الموقف ! . ثم يعاود الشاعر العمل على تكثيف حضورهذه الشخصية عبر الدوال على هذا النحو :
لوركا يبتاع
صحيفة يومية
يخرج منها بغتة فريق
طبي
يحاول أن يستأصل أشبيلية من قلبه
لكنها الطفلة
التي
لن تكبر
أشبيلية ذائبة
في لعابه
للحد
الذي جعلها تتألم .
أشبيلية طفلته التي لن تكبر ، بل ستظل محتفظة ببهائها ، ونضارة وجهها ، ضد الزمن الذي لن يسمح له الشاعر بالنيل من هذا البهاء وعليه ـ أي الزمن ـ أن يرى طريقا آخر للعمل بعيدا عن قدرته على سحق كل ما هو بهي ، والإتيان عليه بفعل غدوه ورواحه ، وتقلّب فصوله التي تحدث أثرها الفتّاك على الحجر والبشر ، وتنال من سموق الشجر . تظل أشبيلية الوطن عالقة في اللعاب هكذا للحد الذي يجعلها تتألم ، فلا ضير إذن ، وعلى الفريق الطبي الذي خرج من تلك الصحيفة اليومية ، أن يسلك سبيلا آخرلا تقوده إلى إتمام عملية الاستئصال لأشبيلية من قلب هذا الشاعر الحالم بالخلاص لشعبها ، ولبقية شعوب العالم التي تتوق إلى نيل حريتها ، وما حضور الصحيفة اليومية هنا ، سوى معادل لفعل الميديا الحديثة حينما تصبح آلة فاعلة في أيد غيرأمينة !فأشبيلية طفلة لن تكبر ، ولايمكن استئصالها على هذا النحو ، واستخدام الشاعر لأداة النفي المستقبلية " لن " له مايشي به ، وما يدل عليه ! ثم يتحرك الشاعر هنا من أجل إنجاز رسائله على الوجه المبتغى ، فيستحضر شخصية سلفادوردالي في قصيدته التي تحمل الاسم نفسه " "اسمه سلفادوردالي" هكذا :
يظل
وحده
يمسك بمطواة خشبية
يكسّر العتمة إلى حجارة
ويبني بها على شرفته ليلا صغيرا
يكفي لكي يعتقد أنه يخصه وحده
دون أن يزعجه فراغ نصف اللوحة
بينما البحر
على بعد يرقبه
يوقف جريانه
ويعيد ترتيب
الموج .
بإمكاننا أن نعاود السؤال الذي طرحنا مثله في الموقف السابق ، من سلفادور هذا ، وما سبب مجيئه عى هذه الهيئة هنا متخذا مكانته المتعالية على شبكات البث المباشر لهذا الموقف : إنه سلفادور فيليبي خاثنتودالي ، رسّام أسباني يعتبر من أهم فناني القرن العشرين ، وهو أحد أعلالم المدرسة السريالية ، يتميز بأعماله الفنية التي تصدم المشاهد بموضوعاتها ، وتشكيلاتها ، وغرابتها ، وكذلك بشخصيته ، وتعليقاته ، وكتاباته غير المألوفة التي تصل إلى حد اللامعقول، والاضطراب النفسي ! أما سبب مجيئه على هذه الهيئة ، فلأنه فنان ،والفن والشعر وجهان لعملة واحدة ، وقد تعرضنا لما بين الفن والشعر من وشائج في الموقف السابق ،وإذن فحضوره هنا يكتسب شرعيته ، وعمله على شبكات البث الشعري هنا له مصادقاته ، ومبررات حصوله ، فها هو ذا يتراءى ممسكا بمطواة خشبية يكسّر العتمة إلى حجارة ويبني بهذه الحجارة ليلا صغيرا ، يكفي لكي يعتقد أنه يخصه وحده ، ولربما يعد من نافلة القول أن نذّكر بأن سيلفادوردالي هو أحد أهم مؤسسي النزعة السريالية في الفن التشكيلي ، تلك النزعة التي انبنت في الأصل على كسر التابوهات القديمة في الفن التشكيلي ،وأحدثت لنفسها ثورة في هذا المجال ، وإذن فما المطواة الخشبية ، والعتمة التي يتم تكسيرها إلى حجارة هكذا فيبني بها على شرفته ليلا صغيرا ، أقول ما هذا الطرح اللغوي الذي تتزاحم فيه المتناقضات ، وتتدافع على بينة منه الدوال ، سوى معادل موضوعي لهذا الفن شديد التعقيد ، وفائق الاستسرار الذي يمثله دالي بسرياليته على هذا النحو ، والتلاقي بين الفن التشكيلي والشعر حال منذ اللحظة الأولى : أذكر تجربة مثيرة للشاعر " السمّاح عبد الله " مع الفنان التشكيلي " عدلي رزق الله " وكيف كانا يتبادلان الأطروحات : السمّاح يكتب قصيدته ، فيترجمها عدلي رزق الله إلى لوحات ، ولوحات يترجمها السمّاح عبد الله إلى شعر هكذا ، وهي تجربة يشهد بها الكثيرون من أبناء جيلي ، حتى وصل الأمر بالسمّاح عبد الله لأن يكتب قصيدة باسم "عدلي رزق الله " الفنان التشكيلي في ديوانه الأثير " الواحدون " يقول فيها :
اللون فوّاح وبوّاح وفرّاح وجرّاح
وصاحبه جريح
اللون بعض من مفاجأة السؤال
وليس بعضا من هواء الأجوبة
وانكسارات الشوارع
وابتعد لدقائق معدودة تر هذه الدنيا يزوّقها دم متخثّر
دم جرحك القاني
وآيته الفحيح
أنظر ألم أك قلت لك ؟
اللون جرّاح وصاحبه جريح
اللون مسكوب على شكل الضريح . (5)
والمتأمل لهذا النص / اللوحة ، أواللوحة / النص ، سيقف مباشرة على ما بين هذين الفنين : الشعر والفن التشكيلي من وشائج تكاد تصل بهما إلى حالة من حالات الاتحاد بالمعنى العرفاني الصوفي ! ثم يكثّف سلفادوردالي من حضوره عبر الدوال النصيّة المستأنس بها على هذا النحو :
يجلس سلفادوردالي وحده
فوق موجة ساكنة على الشط
يرتب لفتنة بين الماء وبين النار
ويحشد غليونه بكثير من التبغ والحشيش
بينما الخرافة عارية
تدور في مداره
يغازلها
تشم رائحة عرقه
وتغيب في اصطياد
الطيور المائية الملونة .
وحده سلفادوردالي الذي بإمكانه أن يرتب الفتنة بين الماء والنار ، فبين الماء الذي جعل الله منه كل شئ حي ، وبين النار تنشغل الفتنة ! هل نحن بصدد الحديث عن ذلك الذي سيأتي في آخر الزمان يخايل الناس , ويصنع لهم جنة ، ويصنع لهم نارا يعرف بالمسيخ الدجّال ، ربما يكون هذا ، وربما يكون غيره ، فعن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله " ص" : لأنا أعلم بما مع الدجال منه ، معه نهران يجريان : أحدهما رأي العين ماء أبيض ، والآخر رأي العين نا ر تتأجج ، فإما أدركنا أحدا فليأت النهر الذي يراه نارا ، وليغمض ثم ليطأطئ رأـسه فيشرب منه فإنه ماء بارد ... الحديث .
سلفادوردالي وحده الذي يمكنه أن يمزج بين الماء والنار في مكون واحد ، لقد فعلها حقا في لوحاته السريالية شديدة التعقيد ، وفائقة الروعة في اللحظة نفسها ، يفعل هذا بينما الخرافة عارية تدور في مداره ، يغازلها تشم رائحة عرقه ،وتغيب في اصطياد الطيور المائية الملونة ! تلاق باد بين الشعر من ناحية ، وبين الفن التشكيلي من ناحية أخرى ، ما كان لنا أن نتخيله لولا حضور سلفادوردالي على شبكة البث الدلالي المباشر في النص هنا ، ولولا استدعاء الشاعر عبد الله راغب أبو حسيبة ، له ،ما كان لنا أن ندرك هذا التلاقي ، ونتحصّل على المساكنة ، ونحقق الجوارعلى هذا النحو ! ثم نمضى مع الشاعر في رحلته الشيّقة والشائكة هنا بقصد ترصّد أكثر فاعلية لعملية الاستدعاء في إطارها الشخصاني المتمثل في كونها قناعا يشير به ، ويومئ إليه ـ كما سنرى بالفعل ـ في قصيدته " رمح معاوية " التي مطلعها :
أملأ كفّي من بحركم
تعلّقت بالماء
بين كفّي قرية بكامل ملابسها
صياد متمرس
يعرف كيف ينام بين فكّي حوت
دون أن تنتبه له غريزة القنص
قناع يهرب من صاحبه
حروف متناثرة لا تصلح لكتابة نص استغاثة ،
وضوء يهرب من متأهب لصلاته .
وهنا ، هل يليق بنا أن نتساءل من معاوية "ض" وما الذي أتى به هكذا ، ممثلما فعلنا في الموقفين السابقين ؟ بالطبع لا ، وعلى كل فإن معاوية "ض" هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي ، من أصحاب النبي "ص" وأحد كتاب الوحي ، سادس الخلفاء في الإسلام ، ومؤسس الدولة الأموية في الشام ، وأوّل خلفائها ، ولد في مكة عام 610م ،وتوفي في دمشق / سوريا عام680م ، وقد جئ به هنا من قبل الشاعر ـ فيما أرى ـ من أجل التأمين على مواقفه ، ومناصرتها ، والتأكيد على شرعية حدوثها . فهذا الصيّاد المتمرس الذي يعرف كيف ينام بين فكّي حوت دون أن تنتبه له غريزة القنص ، هو نفسه معاوية بن أبي سفيان "ض" داهية العرب الذي أسس دولة وأقام صولجانا ، ووأد الفتنة التي ألمّت بالمسلمين عقب مقتل عثمان بن عفان الخليفة الثالث "ض" بعد معركتين دمويتين فاصلتين في حياة المسلمين وهما معركتا : صفين ، والجمل تلكما المعركتان اللتان راح ضحيتهما الآلاف من المسلمين بحثا عن دم عثمان ، وصراعا على الخلافة ! وهو أي معاوية بن أبي سفيان "ض" الذي أقام حكمه وخلافته على توازن فريد ، فجعل بينه وبين الرعية خيطا رفيعا يمسك هو بطرف منه ، وتمسك الرعية بالطرف الآخر وعلى كل منهما أن يحاذر أن يشد الآخر إليه شدا لايراعي طرفي المعادلة : الحاكم والرعية ، وهو الصحابي الجليل صاحب الفتوحات ، والمآثر الكبار في نشر دين الله تعالى ، وإبلاغه إلى أقاصي الأرض :
المشهد كان كافيا
أن ألقى كل هذا الفزع
في رأس رفيقي
الذي أكد لي
أن معاوية يقف على أعتاب بيتي
ويحمل رمحا
أكد للمارة أنه قلم لا يصلح للقتل
وأن الماء الذي في كفيّ
حبر .
هل كان بإمكان معاوية "ض" أن يفعل خلاف الذي فعله ؟ ربما كان ذلك ، ولما لا ، لكنه اجتهد ، وهو العالم الفقيه ، والمحدث الذي يليق به الاجتهاد بعد أن امتلك أدواته من العلم والمعرفة والفطنة والقدرة على مواءمة الأمور ، لما لا، وهوصاحب شعرة معاوية التي أقام على بينة منها مملكته ، وممالكه الأخرى في أقاصي البلاد دون أن تنقطع أو تهتز هذه الشعرة ، فتميل إلى طرف على حساب طرف في إهابات تشي بما كان يتمتع به "ض" من رؤى صائبة ، وخيارات على قدر كبير من الدقة والنفاذ ، فما رمحه الذي كان يهش به ليل الصحارى ، ويشهره في مواجهة الأعداء , سوى قلم عندما يتعلق الأمر بشأن الرعية ، لايصلح للقتل ، وربما يكون بإمكانه ـ أي هذا الرمح ـ أن يصلح للقتل في مواضع أخرى ، عندما يتعلق الأمر بحماية المدن والممالك ، وعندما يعاود المرجفون خياراتهم في النيل من تلك الممالك ! وهكذا ، وعلى هذا النحو بقينا مدة نتابع فيها استلهامات عبد راغب أبو حسيبة لشخصياته ، وكيف تم له زراعتها في السياقات النصية لتؤدي دورها في عملية بث رسائله الممهورة بالرمز فيما يعرف بتقنية القناع في الشعر .
المراجع : 1 ـ يراجع : عبد الله راغب ديوان " هذا الراقص " دار الأدهم للنشر والتوزيع / القاهرة 2017م .
2ـ يراجع : د / مصطفى هدارة " النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث / مجلة فصول / المجلد الأول / العدد الرابع 1981 م .
3ـ يراجع : د/ جابر عصفور " أقنعة الشعر النعاصر " مجلة فصول / المجلد الأول / العدد الرابع 1981م .
4ـ يراجع : د/ عاطف جودة نصر " الرمز الشعري عند الصوفية " دار الأندلس / بيروت / لبنان 1983م .
5ـ يراجع : السمّاح عبد الله ديوان " الواحدون " دار التلاقي للكتاب / القاهرة 2009م .