( الصرخة
بودّي أن أكتب رواية عن صرخةٍ خرجت من فمِ شخص وهو يموت ،
وهامت في الفضاء ثمَّ عادت تبحثُ عنهُ .
صرخةٌ تريدُ الرجوعَ الىٰ الفمِ الذي خرجت منهُ
الىٰ رحمها ،
نبعها الجاف .
بودّي أن اكتبَ عن صرخةٍ تعودُ إلى صاحبها الميت
وتعرف ماذا كان يريد أن يقول .
بودّي أن أعرفَ ماذا يقول ميتٌ لصرخته ,
وماذا تقولُ الصّرخةُ للفضاء .
وديع سعادة
الأعمال الكاملة / رتق الهواء ص 339،)
_____تُعدُّ تجربة الشاعر اللبناني وديع سعادة في كتابة قصيدة النثر ، من التجارب المهمة الممثّلةِ لقصيدة النثر العربية ، ويقف إلى جانب القلائل من كتاب قصيدة النثر العربية في الخط المتقدم الذي يمثّلُ فهماً سليماً لبنائية وموجهات هذا النمط الكتابي الذي أثار ولايزال يثير النقاش والجدل بين الحين والٱخر في المحافل الأدبية والثقافية العربية ، مما يعني أن قصيدة النثر العربية لاتزال في طور البحث عن النماذج التي من الممكن أن تُعدَّ مساهمة عربية في الجهد العالمي لصياغة صيرورات جديدة لقصيدة النثر تتجاوز الخطوات التأسيسية الأولىٰ منذ لوتريامون وبودلير ورامبو ومالرمييه فضلاً عن المنجز الذي قدّمته النماذج الانكلوسكسونية الى قصيدة النثر ومابعدها ، وعلى الرغم من الضبابية في التوصل إلى تأشير المقدمات الصحيحة لظهور هذا النمط في بنية الثقافة العربية ، خاصة ما أحدثته التنظيرات المتناقضة للرعيل الاول من كتاب هذه القصيدة منذ خمسينيات القرن الماضي ، فإن الجيل الثاني قد تمكّنَ من تأسيس مشاريع شخصية عُدت خلاصة لبحث الشعراء العرب عن شكلٍ شعري يتّسقُ مع الوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي ساد البنية الاجتماعية لهذا الجيل ، وأعني به جيل الستينيات من القرن الماضي ، ففي الوقت الذي ظهر فيه مشروع جماعة كركوك في العراق _ وتحديداً مشروع كتاب قصيدة النثر للشعراء سركون بولص وصلاح فائق وفاضل العزاوي ، بعدّها الحساسية الجديدة في المشهد الشعري العراقي والعربي _ فقد ظهرت أصوات شعرية جديدة تبنت تجربة قصيدة النثر في بلدان المشرق العربي ، مثل سوريا ولبنان على نحو واضح ، ومن هذه الأصوات هم الشعراءاللبنانيون عباس بيضون وبول شاؤول ووديع سعادة الذي أصدر مجموعته الاولى (ليس المساء إخوة) عام 1968 بخط اليد ووزعها على اصدقاءه ثم صدرت مطبوعة في مفتتح عام 1988 ، ففي تجربته التي امتدت على مساحة تسعة دواوين حرص وديع سعادة علىٰ المحافظة علىٰ بنائية نصيّة تُحقّقُ الإبلاغ النثري للنص كفقرة تتبنىٰ الصورة الكلّانية عبر التواصل بين جمل النص لتحقيق وحدة الموضوع وعضوية البناء ، كما في النص الذي اخترناه أعلاه ، فالنص يتكون من خمس جملٍ متلاحقةٍ لاتترك فرصة للمتلقي للتأمل مثلما تحرص عليه قصيدة الشعر القائمة على بناء الصورة الجزئية المكونة للنص ، إذ أن نهاية كل سطر من الأسطر الخمسة لاتحقق بنية البياض التي تقطع التراسل والتلاحق بين الجمل ، وانما تبني جسراً تواصلياً يحقق الوحدة العضوية للنص دون ظهورٍ لبنية الانقطاع المنظورة في قصيدة الشعر خاصة في القصيدة السيتينية التي كشفت عن انعكاس للتشظي القائم في البنية الاجتماعية العربية بعد 1967، فالنص يرصد حالة إنسانية تنتج عبر التوتر القائم بين الإنسان ومشاكل الواقع ولا يملك وسيلة اعتراض علىٰ فواعل التوتر هذا سوىٰ الصرخة المرافقة لحالة الموت ، وعلىٰ الرغم من ورود حالة (الصرخة) كتعبير عن معاناة شديدة التعقيد في فنون مختلفة أدبية منها أو فنية ، فإن صرخة وديع سعادة تشهد مساءلة سببية أدّت إلى خروجها ، والكشف عن توق الشاعر لمعرفة ما وراء هذه الصرخة من معاناة ، فهو يلاحقها منذ خروجها من فم ميت الىٰ الفضاء ورجوعها لتبحث عنه ، ولا يكتفي بالإخبار أو إثارة اسئلة تتعلق بكينونة الرجل الذي يموت ولا حتى الصرخة ، وانما تستفزّه هذه الحالة إلى درجة الرغبة الضاغطة باتجاه كتابة رواية عنها ، وهذا يعني أنّ رؤية الشاعر لايستوعبها سوى الرواية بكل اشتراطاتها الاجناسية لتوفر مساحة أكبر من نص قصير للكشف عن حجم الاكراهات التي يتعرض لها الإنسان وبكل مستوياتها إلى الدرجة التي يتحول فيها ردُّ الفعل إلى صرخة تنوب عن الرجل الميت لنقل معاناة لاتجد تعبيراً عنها سوىٰ الصرخة ، وهنا تتبدىٰ إمكانية الشاعر في شعرنة هذه الرؤية التي تتجاوز الحدود الجغرافية لتكون رؤية إنسانية شاملة تمتدّٰ على مساحة واسعة من الأمكنة وحتىٰ الأزمنة وترتبط بوجود الإنسان اينما كان ومتىٰ ماكان ، لذا فالرؤية وجودية بقدر تعلقها بالشخص الميت الذي يرصده النص فإنها رؤية عامة ، فقد تكشّفت شعرية رؤية النص بمنح (الصرخة) حياة مؤنسنة لتمارس حرية البحث والتنقّل بين فم الميت وجوفه والفضاء لتعرف ماذا كان يريد صاحبها قوله وماذا كانت تريد أن تبلّغه لتنشره في الفضاء ولتشهره للملأ ، وينتقلُ هذا البحث المعرفي الىٰ كاتب النص ليعرف ماذا كان يريد أن يقول الميت لصرخته وماذا كانت تريد الصرخة أشهاره ، إذن هي رحلة البحث الجوّاني لمكنونات الذات الإنسانية في نضالها ووقوفها بوجه عوامل احباطها وضعفها إلى مستوى الاستعاضة بالصراخ تعبيراً عن الاكراهات الوجودية التي تتعرض لها الذات في محيط يشكّلُ تهديدا مستمراً للوجود الإنساني .هكذا تتجه قصيدة النثر عند وديع سعادة في هذا النص المختار وغيره من النصوص الىٰ بحث شعري يُخرجُ نثرية النص الى ٱفاق أرحب تتسعُ فيه اللغةُ لتمتدَّ صوب شعرية تنتهكُ الاعراف الاستهلاكية والتسطيحية للغة النثر المباح إلى فضاء شعري يمنح النص قوّة الإيحاء ، وهذا ماتصبو إليه قصيدة النثر لتملك خواصها الاجناسية .