تمهيد:
يضمّ المشهد الشعري المعاصر في تونس والمغرب عشرات الأصوات الشعرية المتفردة وذلك بناء على تراكمات نصية في المدوّنة الشعرية المنشورة. ففي تونس مثلا نجد قرابة خمسين شاعرا في العقود الثلاثة الأخيرة مثل: يوسف خديم الله ومنصف الخلادي وخالد النجار وعبد الباسط بن حسن وآمال موسى وميلاد فايزة ورضا العبيدي وفتحي قمري وعبد الواحد السويح ونصر سامي ومحمد بوحوش ومحمد جلاصية وسعيف علي ولمياء المقدم وعادل جراد وفتحي مهذّب وسعيف علي وسامية ساسي وصلاح بن عياد وخالد الهداجي وأمامة الزاير وصابر العبسي ونزار الحميدي والسيد التوي وأشرف القرقني ومحمد العربي وأنور اليزيدي وسفيان رجب وصبري الرحموني وناظم بن ابراهيم وفاطمة كرومة ومحمد الناصر المولهي وسامي السلماني ووليد التليلي وحمدي فتني وحمزة السعيدي وأيوب السعيدي... وغيرهم.وفي المغرب نجد قرابة خمسين شاعرا معاصرا مثل سعيد الباز وياسين عدنان وسعد سرحان وعبد اللطيف الوراري وعبد الرحيم الخصار ونجيب مبارك ومحمد بنميلود وعبد الرحيم الصايل وسكينة حبيب الله ومصطفى ملح ومحمد أنوار ويوسف الأزرق وعبد الله بالحاج ولحسن هبوز ويونس الحيول وحسن بولهويشات وعائشة بلحاج ومحمد أنوار وعبد الله بلحاج وبوبكر متقي ومحمد العرابي وحسن ملهبي ومنير الادريسي ونزيه بحراوي ونادية العناية وصفاء السعد وكريمة نادر.... وغيرهم. وما يجمع الأصوات التونسية والمغربية هو انخراطها الفعلي رؤيةً وممارسة ً في أتون الحداثة الشعرية سواء في شكل قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، إذ لم يعد للقصيدة العمودية أي حضور لأنها لم تعد تعبّر عن العصر ثم إن مجال التجديد في جمالياتها صار أصعب من ذي قبل، نظرا إلى أن القصيدة العمودية قد استوفت جمالياتها طيلة خمسة عشر قرنا خاصة مع ظهور الموشحات الأندلسية وما تلاها حتى ظهور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. وإن اتخاذ الشعراء المعاصرين شكليْ قصيدة التفعيلة أو النثر ليس عجزًا أو قصورًا منهم وإنما يحمل الأمر في طياته موقفا من ثبوتية العالم وانغلاقه. حتى أن الشعراء المعاصرين في تونس والمغرب تجاوزوا إشكالات التسمية فكان همّهم الشعر فقط بعيدا عن أحابيل التسمية وفخاخها.ويمكن انطلاقا من المدوّنة الشعرية المنشورة في الكتب أو الصحف والدوريات أن نقول إن الشعر المعاصر في تونس والمغرب قد خرج نهائيا من فضاء القصيدة إلى فضاء النصّ، لأن النص أشمل وأوسع من القصيدة بحدودها النقدية المعروفة داخل عمود الشعر. ومن الإشارات الدّالّة على هذه التحولات الشعرية تشكُّلُ حركة شعرية جديدة في تونس إسمها حركة نص منذ مارس 2011 بينما كانت إرهاصاتها قبل ذلك بسنوات بما سمّيته آنذاك الأصوات أو الحساسية الجديدة في الصحف والمجلات والدوريات التونسية والعربية. وتُوّجت هذه الحركة ببيانات شعرية منذ صيف 2011 إلى حدود ماي 2015 بإصدار الكتاب المزدوج الأول والثاني للحركة. وهي حركة تضم سبعة شعراء: صلاح بن عياد، أمامة الزاير، خالد الهداجي، نزار الحميدي، السيد التوي، عبد الواحد السويح وعبد الفتاح بن حمودة). وانطلاقا من هذه الرؤية التأسيسية الجادة التي فتحت باب النصّ على مصراعيه بناء على نظرية النصّ التي ترسّخت في النقد العربي المعاصر، استطاعت الحركة الشعرية المعاصرة في تونس والمغرب الخروج من قمقم القصيدة إلى مارد النصّ، بدءًا بالتّجريب، وصولا إلى خصائص المعجم والإيقاع والتشكيل البصري والقدرة المائزة على توظيف الفنون الحديثة (سينما، مسرح، فن تشكيلي، موسيقى، نحت، نقش، غرافيتي، تصوير فوتوغرافي، كاريكاتور...) توظيفا مخصوصا حتى أنّ هذه الفنون التي وقع تطويعها للشعر صارت ضمن آليات اشتغال النصوص الشعرية المعاصرة، إضافة إلى قدرة هؤلاء الشعراء على توظيف المكان بمرجعيه الواقعي والتّخييلي والسرد والضمائر والتفاصيل واليومي والهامشي في نصوصهم بما يجعلها غنية وثرية متلبّسة بحاضرها و مقذوفة في مستقبلها.
مدخل:
من القصيدة إلى النصّ/ من الواحد إلى المتعدّدنظرا إلى اتساع المدونة الشعرية المنشورة في كتب أو صحف أو دوريات أمكن لي أن أرصدَ جملة من التحولات المتعلقة بالنص كتابة وتنظيرا، فرأيت أن أتناول بالدرس تجربتيْ الشاعر التونسي خالد الهداجي في كتابه «مجرد رائحة لا غير» والشاعرة المغربية سكينة حبيب الله في كتابيها «لا لزوم لك» و«ربع قرن من النظر» بوصفها كتبا صدرت في عام واحد (2014) وبوصفها تنتمي إلى قصيدة النثر وإلى فضاء النصّ بما يتيح لها أن تشغل حيّزا مهمّا خارج فضاء القصيدة، رغم فخّ التسمية النقدية الحديثة «قصيدة النثر» في انتظار ترسيخ مفهوم «النص الشعري» في الأدبيات النقدية المعاصرة فما هو موزون حسب رأيي يدخل في فخاخ القصيدة وما هو غير موزون يدخل في فخاخ النصّ. ورغم أن هذه العوامل التي تبدو في ظاهرها عوامل خارج-نصّيّة تتعلق بالشّكل لكنّها عوامل دالّة وفاعلة في تحديد رؤية الشاعرين للعالم والوجود والأشياء واللغة والذات الشاعرة.
تقول الشاعرة سكينة حبيب الله في نص «أربعة أبواب للمعنى»:
«يقف المعنى...
بآخر العالم،
على رِجْل واحدة
واضعا يديه على رأسه،
منتظرا الجرس الذي سينهي
كل هذا العقاب».
إنها عوالم شعرية قائمة على الدهشة والشكّ والحيرة والأسئلة وليست قائمة على الأجوبة والأشياء الجاهزة سلفا. فالشعر المعاصر يخترق الحدود بهذا المنظور ويجعل من الحياة أسئلة تواجه المعنى وتعمل على تفكيكه والانفلات من إساره.
يقول الشاعر خالد الهداجي في نصّ «حارس الظلام»:
«هكذا جاء،
مُغلّفا بالبياض،
هكذا جاء مثل ورقة بيضاء،
وكان قدومه عقابا لروحه الآثمة»
.1) المعجم الشعريّ وخصائصه:
إن حضور المعجم المستل من الهامشي واليومي والبسيط في هذه الأعمال الشعرية لا يختص به الشاعران موضع الدرس فقط بل كل شعراء الحداثة العربية في التفعيلة وقصيدة النثر، ولكن رأيت أن أنبه إلى خطورة هذا المعجم لديهما وإلى كيفية اشتغاله أو تحركه وفق رؤية مخصوصة أكسبت هذا المعجم فرادة. فيبدو المعجم الشعريّ المتداول لدى الشّاعرين معجما مخصوصا مأخوذا أساسا من اليوميّ والهامشيّ والبسيط لكنه لا يحضر إلا عبر إعادة اكتشافه من أجل مساءلته وإعادة بنائه. ورغم أن الشّعراء التونسيين والمغاربة يشتركون جميعا في هذا المعجم المتداول إلا أنّه يحضر وفق نسق مخصوص لدى كل شاعر ولدى الشّاعرين موضع الدّرس من جهة علاقتهما بلحظات التّوتّر أو الانفعال الشّعري بمعنييْهما العميقين للكلمة في المدوّنة النقدية الغربيّة والعربيّة. فشعريّة النّصّ المعاصر تتأتّى من تجاور الجمل والتراكيب والكلمات والأسماء والحروف والأفعال والعلامات أي من جهة اشتغال هذا المعجم وفق نسق شعريّ مخصوص.
يقول الشّاعر خالد الهداجي في نص «العناكب فوق السقف»:
(يبدو أن كل شيء في مكانه
ولا شيء يزعج الله
الشّيخ المتقاعد في المقهى
الماضي يسكن الشَّعْر الأبيضَ
الجميلات يعبرن الشارع
السّائحة على الشاطئ
الشّاطئ قرب البحر
البحر يحتضن الحسرة
يبدو أن كل شيء في مكانه).
فالمعجم أو السّجلّ اللّفظي في هذه الفقرة الشعرية انحصر في عدد قليل من الكلمات (الله، الشيخ، المقهى، الشّعر الأبيض، الجميلات، الشّارع، السّائحة، الشّاطئ، البحر) لكن الدّهشة الشّعرية تتأتى من الإقرار بأنّ كلّ شيء أصابه الروتين والرتابة، وهذا مصدر قلق شعريّ عاتٍ ضد المألوف والسَّكينة والطمأنينة الكاذبة.
تقول الشاعرة سكينة حبيب الله في نص «لا»:
«الطّريق لسان طويل يتذوق من الأحذية طعم العناوين.
الطّريق لسان طويل
يدليه في وجه من لا يملك رِجْلا،
أو من كانت له رِجْل زرعها فزّاعةً
في حقل ألغام...
وعاد يعْرج».
فالمعجم أو سجلّ الملفوظات متطابق مع لحظة التوتر الشّعري (طريق، لسان طويل، الأحذية، العناوين، رجْل، فزّاعة، ألغام...).
لقد مثّلنا ببعض الفقرات الشعرية لمعرفة خصوصيّة المعجم أو السّجلّ اللفظي المعتمد لدى الشاعرين، فكل الألفاظ أو الكلمات المستعملة تنتمي إلى عالم الأشياء البسيطة والقريبة والمتاحة، بعيدا عن كل الألفاظ القاموسية المتعالية والمتخشبة. وهذا يدعم ما ذهبنا إليه من أن الشعر المعاصر في تونس والمغرب نزل من علياء القصيدة العربية «الفحلة والعصماء» منذ منتصف التسعينات إلى اليوم خلافا لأغلب شعراء الأجيال السابقة في كلا البلدين التي ظلت في دائرة البلاغة القديمة فالشعر المعاصر له بلاغته أيضا لكن اختلفت الرؤى وزوايا النظر واختلفت الوسائل وتنوّع الأداء الشعريّ، فانخرط الشّعر المعاصر في الحياة والهمّ اليوميّ والعرج الكونيّ والأشياء البسيطة التي تضجّ بالحياة.فاللغة تحولت عبر مسارات طويلة من دائرة القصيدة والاستمناء اللّغوي اعتمادا على لغة قاموسية متخشّبة في مجملها وعلى تراكيب وإيقاعات رتيبة وصور مستعادة هي صدى للقراءات وليست صدى للحياة الضّاجّة.
يقول الشاعر خالد الهداجي في نص «رقص»:
«لا شيء تغير
تأتي الملائكة ليلا
تستمر حرب السماوات الثلاث.»
ويقول في نص «تناظر»:
«طفل يطعم الحَبَّ لعصافير الحديقة
شاعر يصرّ على مغازلة قطة بيضاء
رغم سيل بصاق الكلاب الذي ينهمر على وجهه».
وتقول الشاعرة سكينة حبيب الله في نص «مديح الغفلة»:
«وأنت من مكان بعيد وغارق في الأبد
قلت...
وداعا
كما لو أن
زجاجا
يتهشّم
في فمك».
لقد توسّلت الشاعرة سكينة حبيب الله بمعجم مستلّ من اليوميّ والبسيط والهامشيّ والمشترك مع حضور معجم الطّبيعة في مزْج استطاعت من خلاله فتح آفاق أرحبَ. واشتركت مع الشّاعر خالد الهدّاجي في نفس المعجم تقريبا، كما اشتركت معه في معجم ينتمي إلى عالميْ الظلمة والنّور وإلى العوالم السّفليّة أو عوالم القاع بمرجعيّتيه الواقعيّة والمتخيّلة. وتوسّل الشاعر خالد الهدّاجي بمعجم مشابه لمعجم الشاعرة سكينة حبيب الله لكنّه أوغل أكثر في استدعائه معجمَ «القذارة» أو «الواقعيّة القذرة» التي عُرفت في الرّواية الأمريكية.
إنّ الأداءات الشّعرية المختلفة للشاعرين تؤسّس رؤية جديدة للعالم قائمة على الرّغبة في إعطائه معانيَ جديدةً مختلفةً عن السّائد خارج البلاغة القديمة، فلغة الشّعر المعاصر هي لغة الحشرجة والنّتوءات والتّشظّي والغثيان والقيء والقذارة والسخط والرفض والتمرّد، بينما اللّغة القديمة هي لغة الوثوق واليقين والفصاحة والبيان بمعنييْهما البلاغيّ. حيث تدور الأشياء خارج فلك المعنى الواحد وعلى الاستعارة بمختلف أنواعها.