توحي لنا قراءة مجمل أعمال الشاعر وديع سعادة، المنشورة منذ ديوانه (ليس للمساء إخوة 1968) بأن الاقتصاد في العبارة والتركيز على الجملة الشعرية هما أهم مفاتيح الدخول إلى تجربة هذا الشاعر الذي يعد من محدّثي كتابة قصيدة النثر العربية في العقود الأخيرة، بالرغم من أن تجربته تمتد إلى نهاية الستينيات، لكنه لا يكف عن التجريب والانفراد بصوته الذي لم يندرج في الموجات السائدة في كتابة قصيدة النثر. ذلك الاقتصاد اللغوي، يوازيه دوماً رضاه بالقليل من القصائد في الكتاب الشعري المنشور. وتلك سمة مطّردة تعكس زهده بالنشر، وعدم تعويله على القراءة الآتية من دمج ما يكتب بالتيارات والمواقف والاختلافات الشعرية السائدة. ويمتد ذلك إلى شكل قصيدته القصيرة غالباً، ثم في أطواره الأخيرة، لا سيما دواوين مثل (مَنْ أخذ النظرة التي تركتُها أمام الباب 2011) وما تلاها. وصولاً إلى قصيدة شديدة القِصر ممثلة في (شذرات شعرية) لم تنشر في كتاب وضع لها عنواناً دالاً لا يخرج من دائرة الأسف الندم، هو (ريش في الريح 2014) آخر أعماله التي كان قد نشر بعض قصائده القصيرة في حسابه على الفيسبوك، كأنما ليؤكد هروب تلك القصائد من التجنيس الواضح تحت مسمى الشعر المتكتل في عاديات الشكل وتراكمات النظم المكررة.. هي ومضات من بيتين أو أكثر لا تخفي ما فيها من مزايا بجانب التكثيف؛ كالنزعة الإنسانية التي تتمثل في الحنو على موجودات الطبيعة تعويضاً عن هجاء الحياة، والسخرية التي رصدها نقاد شعره من قبل، والتي تذكرنا في كثير من المواضع، بتفرد وديع سعادة بالعمق الذي ينقذها من الغنائية الصورية، وشعرية المفارقة الصادمة. سخرية لا تخفي بدورها حزنه على ما يرى ويعيش. تلك الشذرات حملت عبء الحزن الممزوج بسخرية دامعة، لا تبالي بما يمكن أن تهب الحياة لسواه ممن يعيشونها عابرين راضين. يستهل أولى الشذرات في (ريش في الريح) بهذه الشذرات:
(لا تطأ على ظل إنه نظرة نائمة).
ويستمر في هذه الملاطفة الإنسانية لموضوعه:
(لا تأخذ غصناً إلى موقد إنه يد الشجرة).
لقد قرأت مثيلات هذه الشذرات بكونها نزعة إنسانية تجسد من المخلوقات الحية الأخرى أجساداً، يليق بالبشر أن يترفقوا بها. وإذا ما كان الرومانسيون، وجبران خليل جبران في طليعتهم الواعية، قد اتخذوا الطبيعة ملاذاً وهروباً، فإن وديع سعادة يقيم لها محفلاً جمالياً في نصوصه. إنه لا يرى ظلالها وانعكاساتها على النفس كما يفعل الرومانسيون، بل يذهب إلى جوهرها ويهبها حياة تستحق أن تحيا بها دون قسوة. هذا الفتى الهارب من بيروت بعد غرقها في حرب أهلية طاحنة في الثمانينيات، سيلاحق هذه الحرب وأمثالها باللعنات التي تستحق.. ولكن ليس بهجوها سطحياً وحماسياً، بل بإقامة نقيض لها لم تلتفت إليه حياة البشر المناوئين لها. سيستمر في أنسنة الشجرة مثلاً لينبهنا إلى دلالات أعضائها الحية:
(التقطِ الورقةَ وأعِدْها إلى الغصن إنها عين الشجرة).
وفي أخرى:
(كلُّ هذه الرياح ليست سوى آهات بشر).
هنا يستوقف القارى ما للحزن من ثقل مركزي في قصائد سعادة. فكأن الشاعر يثبت فرضية قراءة مفادها أن الحزن كلما ازداد في القصيدة، زادت مرارة السخرية التي كلما ازدادت تجسمت حزناً وأسفاً، لا يملك الشاعر إزاءه إلا التحسر، كخاسر يعبث بخسائره ويعرضها دامعاً، وهي تنتقل بعدواها إلى قارئه أيضاً فيورطه في ذلك المغطس الممتلئ ألماً. لقد عدت إلى مقطوعات لوديع سعادة نشرها في الصحافة عام (2018) وأسماها رسائل، كلها موجهة لشعراء يحيل فيها إلى أبرز ما عرفوا به من أعمال، ويعقد تناصاً جميلاً حين يستطرد على تلك الإحالات، فيكملها بسخرية واضحة، لكنها تكشف موقفه مما يدور حوله، فيخاطب الماغوط مثلاً في رسالة له:
(إلى محمد الماغوط: حزنٌ في ضوء القمر، وفي ضوء الشمس، وفي العتمة كذلك).
وإلى غادة السمان يكتب هذه البرقية:
(لا بحر في بيروت! بل لا بيروت في بيروت).
ويختم الرسائل بكتابة لم توجه إلى أحد بعينه، بل كما أرادها إلى البشر الذين يعيشون معه تلك المأساة:
(اضحكوا اضحكوا واسخروا من الأحلام، اسخروا من الأوهام التي علّموكم إياها ولم تجلب لكم سوى الألم. بالسخرية فقط، من كل شيء، تنتصرون على هذه الحياة).
ليس مطلوباً من الشاعر في العادة، وبحكم آليات الخطاب الشعري، أن يقدم حلولاً لأزمات الحياة وخذلانها وانكساراتها في قصيدة أو ديوان، ذلك شأن آخرين ممن يمتهنون النصح والأحكام الأخلاقية الجميلة والمكررة، لكنه يعطي لنفسه مبرراً لقناعاته التي يجسدها شعرياً. وسعادة، من الشعراء الذين توافقت حياتهم مع خطابهم الشعري؛ فحدة الحزن عنده يوازيها إحساس بسوريالية الحياة وغرائبها. وهو ما شجعه على توليد صور وعلاقات لغوية، لا تحكمها منطقية الحدث أو الشيء العادي، فتعمل المخيلة بحرية قصوى لتؤثث فضاء قصيدته بتلك الصور. وكثيراً ما فكرت في مغزى زهد وديع سعادة، في النشر، لكن الإجابة ربما كمنت في رسالته للناس ووصيته بألا يفعلوا شيئاً سوى أن يسخروا من (حياتهم) تلك التي لا تليق ببشر ترفضهم أوطانهم المحتربة والمدمرة. لقد كان للحرب، كما ذكرت، أثر في حياة وديع سعادة، كما في شعره، فاضطرته للهجرة، ووسمت شعره بذلك الحزن الفادح، تلك الحرب التي جسّد مراراتها في قصائده. وقد توقفت عند قصيدته (محاولة للوصول إلى بيروت من بيروت) في ديوانه (رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات) الصادر عام (1985) على وقع مفردات الحرب اللبنانية ويومياتها الحزينة، وهي تحمل حرارة واقعة الحرب، وتصور ذلك المستحيل الذي ظل يلازمه. يقودنا عنوان القصيدة، أو يوجه قراءتنا لتمثيل التشظي بسبب الحرب، واستحالة العبور إلى ضفة المدينة الأخرى، بعد أن حجزها الرصاص عن الضفة المقابِلة. لذا؛ كان ما تقترحه القصيدة هو (محاولة) للوصول ليس إلا.. وتحمل في طياتها الدلالية عدم الإمكان أو التحقق، وهو ما يريد النص توصيله. وقد لاحظت وجود السرد في القصيدة، وهي تقنية أتاحتها قصيدة النثر، وصارت من أبرز ملامح شعريتها. إن واقعة الحرب محتواة في القصيدة عبر سرد جزئياتها، والإحاطة بملامح وجهها البشع. مخاطباً بيروت، يقول الشاعر:
(أحاول أن أذهب إليكِ
وذلك لا يستدعي سوى رحلة بسيطة:
نزهةِ رصاصة بين المتاريس وشارع الحمراء
لكن ضفتيك مفصولتان ببحر لامع من المتفجرات وحرّاس بابك يركلونني،
فأتدحرج أتدحرج بلا قرار).
هائلة هي خسارات الشاعر، ما يجعل حزنه، ويأسه أيضاً، مبرَّريْن. وتوسعت بنية القصيدة لتستوعب ذلك، وجاءت مثل رشقات متقطعة، فكأنها تتصادى مع أزيز الرصاص في فضاء مدينته، ثم كآهات متصلة تحملها الريح من منفاه القصي