" فتون اللغة المغيبة " عبد الوهاب الملوح / تونس

فيك شيء من حنان أمي أيتها الجدران 

يثرثر  ضجري فلا تزجرينه

 لا تديرين وجهك لقلة حيلتي كما يفعلون 

تشهدين وفاة خطواتي التالفة 

فيحسن صمتك العزاء 

حتى الآن 

أقرضني الله ثلاثين عاما 

كم يلزمه بعد، لا أدري 

نعم، ينتظر فوائدها في النهاية 

على الأقل لا يشي بي لأحد

 لم يسبق أن هددني بمخفر الشرطة 

ولم يجبرني على كتابة تعهد 

ظلال الحقيقة تظهر مساء 

وقدر لمثلنا سماع أصواتها المزعجة 

بينما في الصباح 

لا ينمو شيء 

أكثر من الحظ العاثر 

والوقت.

وفاء صالح/ اليمن

اعتقد إنه جون كوهين هو الذي قال في كتابه "في بنية اللغة الشعرية" إن من مهام الشعرية تحرير الكلمه من معانيها المعجمية والبحث عما يثوي بداخلها من معان أخرى غير مستهلكة، بما قد ينقذها من الاندثار إيمانا منه أن اللغة ليست مجرد وسيط بل هي كائن حي ينمو وبنموه يتفتح الفكر البشري ويتطور وقد صاغ كوهين فكرته هذه انطلاقا من بحوث مجهرية معمقة أنجزها  على مجموعات متنوعة من قصائد كبار شعراء القرن التاسع عشر والقرن العشرين وهو ما مهد سبيل انتشار هذه الفكرة التي هي في الحقيقة وليدة أشغال قام بها الألسني  دي سوسير  فشاعت ببن النقاء والشعراء تحت عناوين متعددة لعل أبرزها "تفجير اللغة"، "الانزياح" الخ… غير أنها ورغم تعدد معانيها تظل تلك اللغة التي تكسر حدودها باحثة عن تخوم أبعد من أجل تشكيل كينونتها المتجددة وكما يقول هايدجار "اللغة هي بيت العالم" لذلك هي التحدي الأول للقصيدة من أجل توكيد ديناميتها الدلالية وفك أسر الكلمات من القيود التي كبلها بها الفقه اللغوي  في وجوهه المتعددة النحوية والبلاغية، فالشعر في نهاية الأمر هو هدم قدسية اللغة من أجل البحث في جمالياتها عن كينونة أرقى. تتقدم هذه القصيدة  من خلال ما تحدثه من تأويلات مغايرة  لبعض الكلمات المنتزعة من مقاماتها المعجمية المعهودة  والكشف عما يمكن أن تتضمنه من معان أخرى مختلفة بل ومناقضة تماما لمفاهيمها الأولى: الجدران التي تصغي وترأف؛ الله الذي لا يشي، لا يهدد ولا يجبر؛ الحقيقة بأصواتها المزعجة وهو ما يشكل جماع ثلاث حركات  متتابعة، متباعدة، متنافرة. ففي الحركة الأولى تم تفريغ الجدران من مفاهيمها المعجمية المألوفة وإذا بها كائن حي فائق الحنان انها تلك الراعية لهذا العمر البئيس وهي التي ترعاه بالسلوان من خلال صمتها، ليست الجدران تلك العوازل الخراسانية الصلبة التي تفصلنا عن الجهات الأخرى وتفصلنا عن العالم ليست الجدران تلك السجون التي تأسر الحرية وتحد الحركة فتمنع التنفس واستنشاق رائحة الأمل إنها هنا ذلك الكائن الحنون بل الألطف في تعامله مع خيبات العمر:

"فيك شيء من حنان أمي أيتها الجدران

 يثرثر  ضجري فلا تزجرينه 

لا تديرين وجهك لقلة حيلتي كما يفعلون 

تشهدين وفاة خطواتي التالفة 

فيحسن صمتك العزاء

ولئن كان الخطاب موجها في هذه الحركة الأولى للمخاطب المفرد وهي الجدران فهو في الحركة الثانية موجها للغائب المنفرد "الله"  الذي لا يهدد ولا يجبر بل يُقرض والله هنا بكل مفاهيمه المقدسة الله الذي يتجلى كرعاية قدسية للكائن وليس ذاك الذي يلتجئ لمخفر شرطة وليس جاسوسا يعمل لحساب احد إنه الله في أشمل صفاته عنوان الرحمة والصبر في انتظار فوائد العمر ومن بين الجدران الرئيفة والله الرحيم تنبثق الحركة الثالثة والتي توهم في ظاهرها إنها خاتمة القصيدة إذ تجتمع كل الضمائر في المتكلم الجمع حيث يكتشف هذا النحن كم الحقيقة مزعجة وهنا تخريج  آخر لكلمة الحقيقة بتسريحها من مواصفاتها القاموسية فتتحول إلى شيء مزعج  وهو  الضجر الذي تثرثر به الأنا في الحركة الأولى، شكل ارتدادي هي الأفعى الملتفة حول نفسها حسب عبارة لعبد القادر الجنابي من خلال إحدى تعريفاته للقصيدة بالنثر غير أن هذه القصيدة مراوغة ومتحيلة في بنائها إذ لا تتوقف عند هذا الحد وتأتي القفلة لتقلب كل شيء وكما هو معلوم فذكاء القصيدة بالنثر في خواتمها؛ القفلة هنا تستدعي إعادة قراءة كل ما جاء سابقا :

"بينما في الصباح 

لا ينمو شيء 

أكثر من الحظ العاثر 

والوقت"

 إذا هذه القفلة لا تفسر ولا تنهي مسار القصيدة ولا تترك الباب مواربا بل هي تعيد النظر في إشكالية الصباح والمساء من خلال التعريف اللغوي فكما هو معلوم هناك مسافة  بين الكلمتين يحددهما الزمن، لكن في هذه القصيدة لا الصباح هو انتهاء الظلام ولا المساء هو انتهاء الضوء فليس هناك سوى عتمة حيث ينمو الحظ العاثر والوقت والوقت  ليس مقدارا من الزمن فقط كما يعرفه ابن منظور صاحب اللسان فهو أيضا التجلي حسب رؤية المتصوفة. تنتج هذه القصيدة أضدادها دونما تعبير نُوَاحي عما تعانيه الذات من مآزق هي ليست في الحقيقة تشظيات وتمزقات ولكنها إدراكات وعي  تستفز القارئ لإعادة النظر في علاقتنا بالزمن السائل وقد جاءت هذه الأدراكات من خلال وعي متبصر باللغة وبما يمكن أن تكشف عنه لو اجتهد الشاعر في البحث عن مكنوناتها والإمساك بفتونها المغيبة. 

و لو جاءت هذه القصيدة في شكل كتلة متراصة مضمومة لكانت أرقي  في كينونتها.

تم عمل هذا الموقع بواسطة