مَن يخافُ مِن "سيلفيا بلاث"؟!

أمسكُ بيديَّ، في أُلفةٍ ومهابةٍ، تلك الطبعة النيويوركية القديمة، التي تحمل على غلافها عنواناً من كلمةٍ واحدةٍ مكتوبةً بخطٍ عريض، ARIEL، أشرع في قراءتها، تجتمع عليَّ الأفكار والذِكرى، وأقررُ بلا سابقِ تخطيط، في صباحٍ خريفيٍ جافٍ، أن أبدأ في ترجمة هذا الديوان. وئيداً، وبحرية، وبمحبة مطلقة. ثم أكتشف لاحقاً، أنني لا أجد للديوان ترجمة له هكذا بشكله الذي وضع وطبع به، وإنما ترجمات متفرقة ومختارات، فأزداد حماسةً وأبدأ في لهفةٍ إلى ترجمة أول قصيدة. هكذا، وبلا مقدمات بدأت في ترجمة تلك القصائد.. "آرييل"، هي تلك القصائد اللاذعات التي جمعها الشاعر "تيد هيوز" زوج سيلفيا، ونشرت بعد انتحارها بسنتين، و"آرييل" هي قصيدتها الملحمية الصغيرة تلك، عن الفتاة الصغيرة التي تقود حصانها بشجاعة تجاه الشمس المشرقة! و"آرييل" كذلك هو حصانها الذي كانت تقوده أسبوعياً، عندما كانت طالبة في كامبريدج. وفي يومٍ ما، انفلت من تحت قدميها رِكابُ السِرج فانزلقت من على ظهره، وظلت هكذا، معلقة في الهواء بحبل على عنق الحصان، مسافة ما يقرب من ميلين!! كان لقائي الأول بكتابة سيلفيا أثناء فترة تأديتي للخدمة العسكرية. حين كنت على وشك السفر إلى سيناء، وقعت عيني ليلتها على نسخة جيب مترجمة من "الناقوس الزجاجي"، تذكرت كلام صاحبي القديم عن تلك الرواية، وحماسه الذي جعلها ترسخ في ذاكرتي كأسطورةٍ حديثة. حملتها سريعاً، وأخذتها معي في سفري. قضت معي، أو قضيت معها، فترةً. كنت أدسها في جيب ملبسي العسكري حتى لا يلاحظها أحد، وأسرق السويعات القليلة فأخرجها متخفياً وأقرأ منها ما أقرأ. أذكر أنني لم أفلتها من جيبي وجواري حتي انتهيت منها، حتى صار غلافها باهتاً ومهترئاً. وأذكر أن تلك الفترة التي كنت أقرأ فيها "الناقوس الزجاجي" كانت من أكثر الأوقات التي مررت بها توتراً!.. كنت أعرفُ أنه لا يجب علي الاستمرار في قراءة هذا في تلك الأوقات الصعبة التي كنت أمر بها، وأنه يكفيني ما ألاقي من ثقل الأيام في الخدمة العسكرية حتى أزيده وطراً بقراءة هذا العمل العصيب.. لكن شيئاً ما كان يجذبني إلى سيلفيا، شيئاً ما قوياً وآسراً. لن أقول "العبقرية"، لا لأنها ليست عبقرية أبداً، لكن هذا لم يكن التأثير الأكبر، وإنما ما أسرني في سيلفيا هو "الشجاعة". سيلفيا بلاث التي تخطر في خفة وثقة خلال وحوش الروح وأكثر كوابيسها رعباً، سيلفيا التي لا تخاف أن تنطق بكل ما في العالم من خلل ومن تناقض ومن أسى. عندما كنت أقرأ "الناقوس الزجاجي" كنت أشعر بقلمها يمضي، بكل قوة وفجاجة، ليعرَّي كل ما يغطيه المجتمع من ظلام يجتاحه، لتعري حتى روحها أمام نفسها، ورغم أننا نجد، من خلال روايتها أو شعرها، أن روحها شفافة ورقيقة ومحبة، لكن نستطيع دائماً كذلك أن نجد تلك النبرة اللاذعة القوية، تلك النبرة المحبطة السجينة التي لا تجد لخفةِ روحها وقوة الحياة فيها مكان، فينطلق صوتها الروائي والشعري لاذعاً، يصفع العالم أجمع بفجاجة الصور وقوتها، وتحديها، ومع ذلك شاحب اللون ملائكي الصورة وكأنما يأتي من عالمٍ آخر.. حتى في صورها، كانت شاحبة، باهتة، كأنها تأتي من حُلم، كأنها طيفٌ شاحبٌ مسَّ العالم برقته وأراده أن يكون مكاناً أنقى، ثم لم يتسع المكان للحلم أكثر من حيز صدرها، ولم يقدر سجنها الكبير أن يملك الروح، وأن يروض ذلك الطيف، فغاب فجأة كما جاء فجأة، وجاءتنا صوره شاحبةٌ وكأن الجمال أكثر غموضاً من أن نراه يعيش أمامنا واضح الصورةِ بيِّن الملامح. عندما انتهيت من قراءة "الناقوس الزجاجي" للمرة الأولى، قلت عنها أنها من أفضل ما قرأت في حياتي، لكنني قلت عنها كذلك أنها كانت تجربة عصيبة ومريرة وأنني ما كان علي أن أقرأها في هذه الفترة من حياتي أبداً. تركت داخلي سيلفيا أثراً عظيماً، نظرةً للحياة لم يستطع محوها شيء، أدباً تمكن من روحي وهذبها وجعلها أصلح للحياة، ومع مرور الزمن وتعاقب القراءات، بدأت أدرك كنه وعمق ما تركته فيَّ سيلفيا، صار امتناني لها أكثر عمقاً، وصارت روحي أكثر تقديراً لهذه الروح الرقيقة اللاذعة، القوية الهشة، الخفيفة التي تترك أثراً لا يُنسى. صرت أرى كتابتها، وما تشابه في الصدى من كتابات الراحلين الذين لم تتحمل الحياة جمالهم فقضت عليهم، أنساً وعزاءاً في هذه الحياة، وتقديراً وإخلاصاً أكثر صدقاً للفنون. ولذلك، عندما عدت لسيلفيا بعد سنواتٍ من خلال قراءة النص الإنجليزي ل "آرييل"، كان تخوفي وتوتري أقل كثيراً هذه المرة، بل إنني كنت أتنقل بين تلك الأبيات والصور القوية اللاذعة، المغرقة في الألم والمأساة وفضح حقيقة الحياة، في خفةٍ وراحة وكأنما أتمشَّي في بيتي الذي آلفه، بيت الحقيقة الذي عندما يحلم فإنه يحلم بصدق يكاد يضيء، وعندما يتألم فكأنه يجمع كل ألم الدنيا المسكوت عنه في قصيدة صغيرة! هذه هي شجاعة سيلفيا، وهذه هي قوة روحها التي لم تخش خوض غمار كل هذا، لم تخش خوض غمار الموت نفسه مرة واثنتين وثلاثة، حتى سقطت في النهاية شهيدة الحقيقة، شهيدة الشجاعة أمام عقلها المضطرب الذي لا يكف عن الصياح! هذه ترجمتي المتواضعة المحبة لقصائد من ديوان "آرييل" للعزيزة "سيلفيا بلاث"، أقدمه إليكم وقد انغمست فيه في روح قصيدة سيلفيا، ووضعته بقدر ما أملك من محبة وإحساسٍ شعري وإخلاص لأدبها.

"أغنية الصباح"   "يضبطُ الحُبُّ روحَكَ مِثلَ ساعةٍ  ذَهبيةٍ سَمينةٍ.   صَفَعت القابِلة باطِنَ قًدَميكَ،  فأخَذتْ صرخَتُكَ الصَلعاءُ مكانها بَينَ الأشياءِ..    تُصدي أصواتنا، مُعظِّمةً وُصولَكَ.   تِمثالٌ جديدٌ في المُتحفِ المَكشوفِ  للريحِ   عُريُكَ يُظلِّل أمننا.. نلتفُّ حَولكَ -  جاحِظينَ -  مِثَل حوائطٍ!      أنا   لَم أعُد أمَّكَ بعدَ ذَلِكَ  لم أعد أكثرَ مِن سحابةٍ تُصقُلُ مرآةً،  لتَعكِسَ  طَمسَها في يَدِ الريحِ..   طوالَ الليلِ..  طنينُكَ يهدِرُ بين الزهورِ الورديةِ  الناعمةِ،  أقومُ لأسمعَ.  بحرٌ بعيدٌ  يَموجُ في أذُنيَّ   صرخةٌ واحدةٌ، وأسقطُ مِن سَريري  ثِقَلُ بَقرة! ومُزهرةٌ في قَميصِ نَومي  الفِيكتوريِّ  يَنفرجُ فمُكَ النَظيفُ، مِثلَ فَمٍ لقِطّةْ!   إطارُ النافذةِ  يمحو ويَبتلع نجومَهُ الحَمقاءَ  والآن..  تجربُ ما ساعَت يَديكَ مِنَ الفِكَرْ    الأصواتُ الواضحةُ تَعلو  مِثل بالّونةٍ!".

"أغنية الصباح"

"يضبطُ الحُبُّ روحَكَ مِثلَ ساعةٍ ذَهبيةٍ سَمينةٍ.

صَفَعت القابِلة باطِنَ قًدَميكَ،
فأخَذتْ صرخَتُكَ الصَلعاءُ مكانها بَينَ الأشياءِ..

تُصدي أصواتنا، مُعظِّمةً وُصولَكَ.
تِمثالٌ جديدٌ في المُتحفِ المَكشوفِ للريحِ
عُريُكَ يُظلِّل أمننا.. نلتفُّ حَولكَ - جاحِظينَ -
مِثَل حوائطٍ!


أنا
لَم أعُد أمَّكَ بعدَ ذَلِكَ
لم أعد أكثرَ مِن سحابةٍ تُصقُلُ مرآةً، لتَعكِسَ
طَمسَها في يَدِ الريحِ..

طوالَ الليلِ..
طنينُكَ يهدِرُ بين الزهورِ الورديةِ الناعمةِ،
أقومُ لأسمعَ.
بحرٌ بعيدٌ
يَموجُ في أذُنيَّ

صرخةٌ واحدةٌ، وأسقطُ مِن سَريري
ثِقَلُ بَقرة! ومُزهرةٌ في قَميصِ نَومي الفِيكتوريِّ
يَنفرجُ فمُكَ النَظيفُ، مِثلَ فَمٍ لقِطّةْ!

إطارُ النافذةِ
يمحو ويَبتلع نجومَهُ الحَمقاءَ
والآن..
تجربُ ما وسعت يداكَ مِنَ الفِكَرْ


الأصواتُ الواضحةُتَعلو
مِثل بالّونةٍ!".

"السُعاة"

"نِداءٌ خافِتٌ..
لقَوقَعةٍ على طَبَقٍ مِن وَرَقةِ شَجَرْ
لا.. لَيسَ لي..
لا تَرضى بِهِ

أحماضُ خلٍ..
مُكدَّسةً في قَصديرٍ مُقفَلٍ..
لا ترضى بها
إنها غيرُ حَقيقيةٍ..

هالةٌ من ذَهَبٍ تَحتوي الشَمسَ..
أكاذيبَ.. أكاذيبَ
أسىً ومَرارةً!

صَقيعٌ يُجمِّدُ وَرَقةَ شَجَرٍ وَحيدةً..
والمَرجَلُ الطاهِرُ..
يَتحَدَّثُ، ويُكَركِرُ..
لنَفسِهِ.. وَحيداً..
على كِلِّ قِمَّةٍ..
مِن تِسعِ قِممٍ سَوداءَ للألبِ

كَدَرٌ في المَرايا..
والبحرُ
يُحطِّمُ صُورَتها الرماديةَ..

آهِ يا حُبُّ.. يا حُبُّ..
أنتَ مَوسِمي".

"خِرافٌ في الضَباب" 

التِلالُ تخطرُ خارِجةً.. 

نحوَ فراغٍ شاحِبٍ.. 

أُناسٌ، 

أو نُجومٌ يُحدِّقونَ بي في أسىً قد خَيَّبتُ آمالَهمْ يَترُكُ القطارُ المُغادرُ خَلفَهُ.. 

خَيطاً مِن نَفَسْ بطيءٍ.. 

بطيءٍ. 

حِصانٌ بلَونِ الصَدَأ! 

حوافرُ، 

نواقِيسُ تَنعَقُ بالحُزنِ، 

يُعتِمُ النهارُ حتّى آخِرِ النهار زهرةً مهجورةً. 

عِظاميَ.. 

مُثقَلةٌ بالسُكونْ والحُقولُ البَعيدةُ تُصهِرُ قَلبي! 

كلُ شيءٍ يُهدِّدُني.. 

بِالعُبورِ إلى جَنَّةٍ يَتيمةٍ.. 

بِلا نُجومْ.. 

مِثلَ مِياهٍ عَميقةٍ مُظلِمةْ!"

"طالب الوظيفة"

"مبدئياً.. هل أنتِ نوعُنا مِنَ البشر؟
هل تَرتدينْ..
عينينِ مِن زُجاج،
أسنانَ زائِفةْ.. أو ساعِداً
دُعامَةً..
أو خُطافٍ كَيدٍ؟
ألديكِ أثداءَ مَطَّاطيةً؟
أو أنَّ ما بينَ فخذَيكِ مَطاطيّْ؟

رُتَقٌ تُريدُ أن تَقولَ..
أنَّ هُناك شَيئاً ناقِصاً؟
- لا..
لا؟..
إذن، كيفَ عسانا نُعطيكِ أيَّ شَيء؟!
كُفّي عن البكاءِ
وافتحي يديكِ.
فارغةً؟
فارغةً، لا مُشكلةْ. هاكِ يَدينْ..
فلتملئيها..
ولتَعقدي العَزمَ،
أن تهِبي أكوابَ شايٍ للجميعِ..
وأن تَهُزّي الصُداع إلى أن يَزولَ عنِ الأدمِغةْ..
ولتَفعَل هيَ كُلَّ ما تأمُرينَ بِهِ..
هل تقبلينَ بِها؟!
إنَّها تأتي مع ضمانٍ!

أن تُغلقَ عَينيكِ عِندَ النهايةِ..
وتَذوبَ بَعدَها مِنَ الأسى!
نصنعُ الآنَ مَخزوناً جَديداً..
مصنوعاً بالكاملِ مِنَ المَلحِ!

وأنا ألاحظ أنكِ بكاملِ عُريِكِ!
ما رأيكِ في هذهِ البذلةِ؟!
سوداءَ، وخَشِنةْ،
لكنّها لَيست بِهذا السُوءِ
هل تقبلين بها؟!
إنّها ضدَّ الماءِ، ضد الكَسرِ..
مُحصَّنةَ ضِدَّ الحَرائقِ،
وضِدَّ قنابلَ تَسقُطُ مِن خِلالِ السُقوفِ.
صدِّقيني،
سَوفَ يَدفِنونَكِ فِيها!

والآنَ رأسُكِ..
- معذرةُ -
إنَّه فارِغٌ..
لديَّ شهادةً هُنا بِذلِكْ!

تَعالَي.. تَعَالَي إليَّ يا حُلوَتي..
واخرُجي مِن دُولابِ المَلابسِ..
حسناً.. ما رأيُكِ فيما سأقولُ:
لتكوني عاريةً، عاريةً مِثلَ ورقةٍ.. وَلِنَبدأ..

ولكنَّكِ، بَعدَ خمسٍ وعِشرينٍ سنةٍ.. تكونينَ فِضةً..
وبعدَ خَمسينَ تَصيرينَ ذَهَباً..
دُميةٌ حيةٌ، أينَما تنظرينَ..
باستطاعَتِها الخِياطةَ..
باستطاعتها الطَبخَ..
باستطاعتها الكلامَ.. الكلامَ.. الكلامَ!

جيدةُ الحالةِ، لا شيءَ فِيها..
فإن كانَ لديكَ ثُقبٌ
فَهي الضِمادةُ..
وإن كانَ لَديكَ عَينٌ
فَهيَ الصورةُ..


يا ولَدي،
هذا ملاذُكَ الأخيرُ؟
فهَل تقبَلهُ؟
هل تقبَلهُ؟
هل تقبَلهْ؟!!"

"السيدة لازاروس"
"ها أنا ذا.. فعلتها مجدداً
في عامٍ واحدٍ من كل عشرةِ أعوامٍأستطيعُ..

كشيءٍ يشبه معجزةً تمشي..
يضيءُ جسدي..
"كأباجورةٍ نازيةٍ"
قِدمي اليمنى
في خِفَّةِ وَرَقة!
ووَجهيْ
جَامدٌ، هَادئ
ككِتّانٍ يَهوديٌ فاخرِ

هاكَ..انزع عني الغطِاءَ
عدوي.. يا عدوي..
هل أخيفكَ؟!

أنفي..
تجاويفُ عينيَّ
صفُ أسناني الكاملُ
وأنفاسيَ الغَضبى
كلُّ هذا.. في يومٍ واحدٍ
سيَنمحي!

قريباً، قريباً..
ذلك اللحم الذي أكَلَه كَهفُ قَبريْ
يَصيرُ أخيراً في بَيته
عَليَّ!

وأنا
امرأةٌ مُبتسمةْ
عمري ثلاثونَ عاماً فَقَط..
وأنا، مثل قِطَّةْ
لَدي تِسعُ مراتٍ.. أموتُ فيها
هذه رقمُ.. ثلاثة

يا له مِن ضياعٍ
أن يزولَ كل عِقدٍ مِنَ الَزمنِ!

كَم مليونا من الأليافِ
كانَ على حِشدِ طاحناتِ الفُستُقِ
أن تندسَّ خِلالَها كَي تَرى
كي تَراهم..
يَفضّونَني.. قَدَماً وَيداً..
عرضُ التعرّي الكبير، سادتي.. سَيداتي..

هاكم يَداي..
رُكبتاي..
قد أكون جلداً وعِظاماً،

لكنني على الرغمِ، ما زِلتُ كما كنتُ،
المرأةَ المثاليةَ..
عندما حدثَ هذا أول مرةٍ، كنتُ في العاشرةْ،
كان الأمرُ حادثةً..

في المرةِ الثانيةْ، قصدتُ
أن أنتهى من كل شيءٍ، ولا أعودُ مطلقاً..
حبستُ نفسي في الصخرِ..
مِثلَ صَدَفةٍ
كانَ عليهم،
أن ينادوا، وينادوا،
ويلتقطوا الدُودَ من داخلي،
كلآلئَ غائرةٍ!




الموتُهو فنٌ، ككلِ شيءٍ آخرَ،
وأنا، بشكلٍ استثنائيٍ،
أُتقنهُ!

أقومُ به إلى أن يَصيرَ كالجحيمِ،
أقومُ به إلى أن يَصيرَ حَقيقياً،
أظن أنه بإمكانكَ القولُ بأنَّهُ
قَضيَّتي!

إنّهُ سهلٌ كفايةً لتقوم به في زِنزانةٍ
سهلٌ كفايةً لتقوم به، ثم تجلسُ ساكناً!
إنهُ..
مِثل العودةِ المَسرحية في وَضَح النهارْ..
العودةِ لنفس المكانِ، لنفس الوجهِ، لنفسِ البَهيميةِ!
لاهياً،
في "المعجزة" التي تدفعني للخروجِ!
ولكلِ شيءٍ ثمن..

هنالكَ ثَمَنٌ..
لرؤيةِ نُدوبي..
لسَماعِ قَلبي..
أحقّاً يَمضي؟!

وهنالكَ ثمنٌ، ثمنٌ كبيرٌ جداً،
لكلمةٍ،
أو لمسةٍ،
أو قليلٍ من الدمِ،
أو قطعةٍ من شَعري،
أو مَلابسي،

إذن.. إذن يا سيدي الدكتور..
يا سيدي العدو..
أنا تُحفَتكْ
أنا غاليتُكْ
الطِفلُ الذهبيُ النَقيْ!

يذوبُ
إلى صرخةٍ.
ألتفُّ،
وأحترقُ
أترى أنني لا أٌلقي بالاً لاهتمامكَ العظيم؟

رمادٌ.. رماد
وأنت تَنكِزُ.. تُقلِّبُ..
لحمٌ، عِظامٌ، لا شَيءَ.. لا شَيءَ هُناكَ!

كعكةُ صابونٍ..
خاتمُ زِفافٍ..
وحشوٌ مِن ذَهَبْ.

سيدي الربُ.. سيدي الشيطان..
احذروا..
احذروا..

مِن الرمادِ، أخرجُ
في شَعريَ الأحمرِ الناريِ
وآكلُ الناسَ مثل الهواءِ!"

"توليب"
"التوليبُ مُستثارٌ للغايةِ، إنَّهُ فصلُ الشتاءِ
انظُرْ..
كيفَ أن كلَّ شيءٍ أبيضَ..
كلَّ شيءٍ هادئٍ..
كلَّ شيءٍ غارقٍ في الثَلوجِ
وأنا
أتعلَّمُ السَكينةَ
أستلَقي، وحيدةً، هادئةً،
ويستلقي الضوءُ على هَذي الحوائطُ البيضاءُ، والسريرُ، وهذه الأيدي
أنا.. لا أَحَد
لا علاقةَ لي بالانفجاراتِ
سلَّمتُ اسمي، وملابِسَ الخُروجِ، للمُمُرِضاتِ
وسلَّمتُ تاريخي للطبيبِ المُخَدِّرِ
وجسدي للجَرَّاحينْ

ثَبَتوا رَأسي بَينَ الوِسادةِ وبينَ رَاحةِ المَلاءة،
مثل عينٍ بين جفنينِ لن يُغلقا أبداً
حدقةٌ غبيةٌ!
كأنَّما يَجبُ عليها أن تبتلعَ كل شيءٍ داخلها!
الممرضاتُ تعبرنُ وتعبرنُ، لا مشكلة.. لا يُزعِجْنني..
يَعبُرنُ كما تَعبرُ النَوارسُ المُهاجرة، في قُبَّعاتِهِنَّ البَيضاءِ
ويفعلنَ أشياءَ بأيديهنَّ.. نفس الشيءِ يفعلنه كلهنَّ!
لدرجةِ أن يصيرَ مِنَ المستحيلِ
أن تُحدِّدَ كَم واحدةٍ مِنهُنَ هُنا!

أنا، في أعينهنَّ
حَصاةًّ!
يَعتنون بي كما يعتني الماءُ بالحصواتِ،
حينَ يَمضي خِلالها، فِي رِقةٍ،
ويُصقِلُها

يَجلِبن لي خَدرَاً، في إبَرِهِن تِلكَ اللامعةِ، يَجلِبنَ لي النَومْ.

والآن، ها قد فَقَدتُّ نَفسي..
قد سَئمتُ من الحِملِ
وحَقيبتي اللَيلِيَّةُ، في جِلدها الخارجيُ الهُشُّ،
تِبدو كعلبةِ دواءٍ سوداءَ
زَوجي، وطِفلتي،
يَخرُجان بَاسِمَين مِن صورَتِنا..
تعبرُ بَسَماتُهُما، مخترقةً جِلدي، تَعلقُ بِهِ
خُطّافاتٍ صَغيرةٍ باسِمةْ!

تركتُ الأشياءَ تنسابُ خارجةً..
قاربٌ لحَملِ البضائعِ
طوالَ ثلاثينَ عاماً
وهُو يتشبثٌ بعنادٍ إلى اسمي، وإلى عِنواني.
نَظفوني، تَماماً
من كُل روابط الحبَّ فيَّ
- رقدتُ - مذعورةٌ، ومُعّرَّاةٌ
على العَربِةِ البلاستِيك الخَضراءَ المُوسَدةَ
راقبت طاِقمَ شايي، أدراجَ الملابسِ، كُتُبي،
وهي تَغيبُ بَعيداً عَن ناظِريَّ،
ويَغمُرُني الماءُ، يعلو فَوقَ دِماغي
أنا الآنَ.. راهبةً
لم أكن أبداً قبلُ بهذا النقاءْ!

لم أُردِ ساعتها الوُرودَ..
أردتُ فقط..
أن أستلقيَّ ويدايَ مرفوعتانِ،
وأن أكون فارغةً.. تماماً
كم هو حرٌ هذا الشعور،
لن تستطيع التخيل كم هُوَ حرٌ!
تشعر بالسكينةِ.. عظيمةً، تُسكِرُكَ عَظَمَتُها
ولا تتُطلَّبُ شيئاً!
فقط لافتة باسمك، وبعض الحُليِّ!
هذا الختام الذي يُسدِلُ المَوتى، أخيراً..
أتخيلهم، يُطبِقونَ عليهِ بأفواهِهِم..
قُربانٌ في قرصِ دواءِ!

أزهارُ التوليبُ تكونُ حمراءُ للغايةٍ في أولِ الأمرِ،
أزهارُ التوليبِ تجرَحُني
أسَمُعها، حتّى خِلالَ وَرَقِ الهدايا، تَتَنفَّسُ،
خفيفاً.. خفيفاً، في قِماطِها الأبيضِ، كطِفلٍ مُزعجٍ
حَمرتها تخاطب جُرحي، ويُخاطِبُها

خفيفاتٍ، يَكَدَنَ يَطِفنَ عَلى الهواءِ، لكِنَّهُنَّ يُثقِلنَنَي..
يُزعجنني، بألسنةٍ تُفاجِئُني، وبَلونِهِنَّ
اثنا عشرَ ثِقلاً.. من رَصاصٍ.. أحمرَ اللونِ،
يحاوط عنقي.. ويُغرِقني

لم يراقبني أحدٌ من قبلُ! وأنا الآن مُراقَبَةٌ
أزهارُ التوليب تتبعني، وتتبعني النافذة من خلفي،
حيث يتسع الضوء فجأةْ،
مرةً كل يومٍ، ثم يأخذ في الانحسارِ..
وأرى نفسي
باهتةً، تافهةً، ظلاً لورقة!
بين عينيِ الشمسِ وأزهارِ التوليبِ
ولا أملك وجهاً، كانت إرادتي أن أطمس نفسي.

وأزهار التوليب الزَاهيةُ بالحياةِ
تأكُل أُكسُجيني!

قبل أن تأتيني، كان الهواءُ ساكناً كفايةً
يأتي، ويذهب، نفساً خلفَ نفسٍ، لا اضطرابْ
ثم مَلأه التوليبُ بِصَخَبٍ شَديدٍ،
تَمَزَّقَ الهواءُ، والتفَّ حولها،
كنَهرٍ يتمزقُ ويلتفُ حول محركٍ أحمرَ صدئٍ
يَغرقُ.
يجذب التوليب حواسي،
كم كان هذا سعيداً في هذه اللحظةِ!
أن ألعب، وأرتاح، دون التورطِ في الأمرِ!
حتى الحوائطِ، كانت كأنها تُدفئ أنفسها!

التوليبُ،
كالحيوانات الخِطِرة..
يَجِبُ أن يَكونَ خَلفَ القُضبانِ،
تراه عِندَما يَتَفَتَّحُ، مِثلَ فَمٍ،
لقطٍ إفريقيٍ عظيمٍ
وأنا أشعر بقلبي. يَنفَتِحُ، ويَنغَلِقُ،
ووعاءه المَضرجُ بالأحمر، يُزهِر بِالحُبِ المُطلَقِ في دَاخَلي.

الماء الذي أتَذَّوَقَهُ الآن، دَافئٌ، مالحٌ، كالبَحرِ،
ويأتِيَني مِن مَكانٍ، بَعيدٍ..
كعافِيَتي!"

"جُرح"

إهداء: إلى سوزان أونيل رُو.

"يا لها من إثارة!!
إبهامي في مكانِ بَصَلةٍ!
ها هو الآن، وطرفهُ
لم يبقَ مِنهُ سوى
جزءٍ معلقٍ،
كمَفصلٍ من جلدْ!
يَتَرَنَّحُ مِن إصبعي مِثلَ قُبَّعةٍ!
بياضُ الموتى،
ومن تحتِه هذهِ الحُمرة المَخمَليةُ

أيها المهاجرُ الصَغيرُ
ها قَد سَلخَ الهُنودُ فَروَتَكَ القَديمةَ
وتمايلتِ تحتكَ سجادةُ الدَمِ
من لُغدِكَ الذي يَنسابُ كديكٍ روميٍ

تَتَدفَّقُ مِن قَلبي مُباشرةً
أدوسُ عَلى الجُرحِ،
وأحكمُ من فَوقِهِ
فُوَّهَةَ زُجاجَةِ فَواريَّ اللَبَنيُّ.

يا لَهُ مِنَ احتفالٍ،
ينبَثقُ من هذهِ الفُرجةِ،
مليونُ جنديٍ يركضونَ
يا جُنودَ تَحريري كُلَّكُم!

أتُرى، في صفِّ مَن خَرَجوا يُقاتلونَ؟!

آه، يا قزمي، يا قزمي الصغيرُ،
إنني مُتعبةٌ،
تناولتُ قرصاً لكي أتخلصَ
مِن هذا الشعورِ بالضَعفِ،
هذا الجاسوسُ المُخَرِّبُ،
"كاميكازي" – يُدَمِّرُني –

"كو كلوكس كلان"..
ضمادتك الملطخةُ.
"بابوشكا"..
تُظلمكَ وتُطفِئُكَ.
وعندما
تواجهُ تلكَ الثمرةُ المتكورةُ داخلَ قلبِكَ،
طاحونةَ الصَمتِ الصغيرةَ..
يا لتِلكَ الطَريقةِ التي تقفِزُ بِها!
كمُحاربٍ قَديمٍ مَنخورٍ

كفَتاةٍ لَعوبٍ
عُقبُ سيجارةٍ في شكلِ إبهامِ!"


"شجرةُ الدَردارْ" 
إهداء: إلى روث فينلايت

"أنا أعرفُ القاعَ.."تقولُ
"أعرِفُهُ جَيداً في جُذوعي العَظيمةَ: إنَّه ما تَخشاهُ.
وأنا لا أَخشاهْ
لَقَد كُنتُ هُناكْ!

إنَّهْ البَحرُ الذي تَسمَعُهُ،
يَموجُ في دَاخِلي،
سُخطُهُ،
أو،
صَوتُ هذا اللَاشيءَ
الذي كانَ يَوماً..
جُنونَكَ!

ما الحُبُّ إلّا ظِلٌ!
أترى كَيفَ تَكذِبُ أو كَيفَ تَبكي مِن بَعدهِ؟
اَصغِ!
هذهِ أصواتُ حَوافِرُهُ،
إنَّهُ يَمضي بَعيداً، يَركُضُ،
مِثلَ حِصانٍ!


سأُظلُّ إذَنْ أركُضُ بإندفاعٍ جُنونيٍ،
حتىَ تَصيرَ رأسُكَ كالصَخرةِ،
وَوِسادَتُكَ كعُشبٍ صَغيرٍ،
وَفَي داخِلِكَ أُصدي.. وأُصدي


أمَ كانَ عَليَّ أن أُحضِرَ صَوتَ السُمومِ،
فَهيَ تُمطِرُ الآنَ، هذا السُكونُ العَظيمُ،
وهذهِ هيَ فاكِهَتُه: بياضٌ صَغيرٌ، كزَرنيخٍ!

عَانيتُ.. كَم عَانيتُ قَسوةَ كُلِّ شُموسِ الغُروبِ..
وَهِيَ تلسَعُني إلى أَقصى الجُذورِ..
تَحترقُ شُعيراتيَ الحَمراءُ، لكِنَّها تَثبُتْ،
يداً مِن خُيوطٍ

والآنَ..
أتَسَاقَطُ قِطَعاً تَتَناثَرُ فِي الهَواءِ

مَطارِقَ. مِن عَاصِفةٍ، فَي البَطشِ والعُنفُوانِ
ولنَ أرِقَّ للنَاظِرينَ حَوليَّ:
(ما كانَ لي بدٌ أن أصيحْ!) والقَمَرُ
أصبحَ قاسٍ كذَلكَ
كانَ سَيَسحَبُني بِوَحِشيّةٍ..
في ظَلامٍ عَقيمٍ
تَوَّهُجُهُ، يُؤلِمُني
أم أكونُ قَد أَمسَكتُ بِهِ في يَدَيَّ؟!

أترُكُهُ، أترُكُهُ..
طَلَلاً، مُسطَّحاً، كالمَريضِ بَعدَ الجِراحةِ الأخيرةِ!
(كَم أن أحلامُكَ تأسِرُني، وتُحيِيني!)

تَسكُنُني هَذهِ الصَرخةُ
تَخفِقُ في الليلِ
تَبحثُ، بِمَخالِبِها
عَن شيءٍ ما
كَي تُحِبَّهْ!

أنتَفِضُ رُعباً
مِن ذَلك الشَيءُ المُظلِمُ
الذي يَنامُ في دَاخِلي
كُلَّ يَومٍ
أستطيعُ أَن أتحَسَّسَ سَطحَهُ الناعِمَ الرّيشِيَّ،
أستطيعُ أن أشعُرَ خُبثَه!

تَعبُر السُحْبُ، تَتَفَتَتُّ
أهَذِهِ أوجُهُ الحُبُ؟! هَذهِ النُتَفُ الشَاحِبَةُ المُهتَرِئةُ!
ألِهَذا يَتبَلبَلُ القَلبُ؟!

لَم أعَد أقدِرُ عَلى المَعرِفَةِ
ما كَنهُ هذا الشيءُ؟! هذا الوَجهُ؟!
مِثل هَلاكٍ وَخيمٍ تَمتَدُّ أفرُعُه، خَانِقةً

أشعُرُ قُبُلاتَهُ الحامِضةَ
تَمشي دَاخلي مِثلَ أفعى
تَتَسَمَّرُ الإرادةُ رُعباً.
هَذي – تَماماً -
هِي تِلكَ العُطُبُ البَطيئةُ التي لا أستطيعُ الوُصولَ إليها
التَي تَقتُلُنيْ، تَقتُلُنيْ، تَقتُلُنيْ"..

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة